التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
مما شاع ولم يثبت في غزوة الأحزاب تخذيل نعيم بن مسعود للأحزاب وذلك أنه أسلم ولم يعلم قومه بذلك، فقال له الرسول: "خذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة"، فهل صح
مما شاع ولم يثبت في غزوة الأحزاب ما ذكره ابن إسحاق من تخذيل نعيم بن مسعود للأحزاب وذلك أنه أسلم ولم يعلم قومه بذلك، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "خذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة"، فهل صح ذلك من طرق صحيحة ؟
من أشهر حوادث غزوة الأحزاب ما ذكره ابن إسحاق من تخذيل نعيم بن مسعود –رضي الله عنه- للأحزاب وذلك أنه أسلم ولم يعلم قومه بذلك، وقوله للرسول -صلى الله عليه وسلم- فمرني بما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّلْ عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة"، وأنه أتى بني قريظة وخوّفهم من انسحاب قريش وغطفان وباقي الأحزاب، وأشار عليهم أن يأخذوا رهنًا من أشراف قريش يكونوا بأيديهم، فقالوا له لقد أشرت بالرأي، ثم ذهابه لقريش وأخبرهم أن يهود بني قريظة قد ندموا على نقض العهد، وأنهم قد عرضوا على محمَّد -صلى الله عليه وسلم- إن كان يُرضيه أن يأخذوا له رجالًا من أشراف قريش وغطفان حتى يضرب رقابهم. وحذرهم من أن يسلِّموا رجلًا منهم رهينة عند يهود، ثم أتى غطفان وحذّرهم كما حذر قريشًا. وكيف أن ذلك كان سببًا لاختلاف الأحزاب وتفرقهم (1).
قال الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة): "ذكر هذه القصة ابن إسحاق بدون إسناد وعنه ابن هشام (2/ 193 - 194) لكن قوله -صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" صحيح متواتر عنه -صلى الله عليه وسلم، رواه الشيخان من حديث جابر و أبي هريرة وغيرهما (2)". وقال الدكتور العمري: "هذه الروايات لا تثبت من الناحية الحديثة ولكنها اشتهرت في كتب السيرة (3)".ا. هـ.
ما الذي صرف الأحزاب ؟
أما الذي صرف الأحزاب فقد أوضحه الحق تبارك وتعالى بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]، فالذي صرفهم كما في هذه الآية أمران: الريح والجنود التي لم تُرَ.
أما الريح فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس –رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نُصرت بالصَّبا، وأُهلكت عاد بالدبور (4)"، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): "وروى أحمد من حديث أبي سعيد قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله، قد بلغت القلوب الحناجر، قال: نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم الله عَزَّ وَجَلَ بالريح". ثم قال: "وعُرف بهذا وجه إيراد المصنف هذا الحديث هنا، وأن الله نصر نبيه في غزوة الخندق بالريح (5)" ا. هـ والحديث الذي أورده الحافظ فيه ضعف لأن في سنده رُبَيْح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد وهو ضعيف. وقد صحَّح الشيخ الألباني الدعاء دون القصة (6).
وأما الجنود التي لم تُرَ، فهي الملائكة كما ذكر المفسرون، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في نصر المؤمنين في ثلاثة مواضع، موضعان منها في سورة التوبة، أحدهما عن غزوة حنين: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} والآخر عند الهجرة: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} والثالث في سورة الأحزاب، وقد سبق. وقد فُسِّرت الجنود بالملائكة في هذه المواضع الثلاثة، وقد مضى في قصة نسيج العنكبوت على فم الغار الحديث عن الآية الثانية: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}.
تنبيه
قال الحافظ في (الفتح): "قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها: أن نعيمًا كان رجلًا نمومًا، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: إن اليهود بعثت إليّ إن كان يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنًا ندفعهم إليك فتقتلهم فعلنا. فرجع نعيم مسرعًا إلى قومه فأخبرهم، فقالوا: والله ما كذب محمَّد عليهم، وإنهم لأهل غدر، وكذلك قال لقريش، فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم (7)".
لكني لم أقف على هذه الرواية لا سندًا ولا متنًا في سيرة ابن إسحاق المطبوعة مع شرحها للسهلي (الروض الأنف)، ولا في سيرة ابن إسحاق بتحقيق محمَّد حميد الله. وقد رواها البيهقي في (الدلائل) من طريق أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بُكير عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت: "كان نعيم رجلًا نمومًا، فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن يهود قد بعثتْ إليّ إن كان يرضيك عنّا أن تأخذ رجالًا رهنًا من قريش وغطفان، من أشرافهم، فندفعهم إليك فتقتلهم، فخرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم فأخبرهم ذلك، فلما ولى نعيم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الحرب خدعة (8)". وأحمد بن عبد الجبار العُطَاردي قال عنه الحافظ: "ضعيف وسماعه للسيرة صحيح (9)".
والقصة ذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية)(10)عن البيهقي باختلاف يسير. وهذه الرواية تجعل تفريق شمل الأحزاب بالتخذيل بينهم من تدبير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد تدبير الله- وأن نعيمًا ما هو إلا ناقل للخبر.
فائدة
قال محمَّد الغزالي -رحمه الله- "ومسلك بني إسرائيل بإزاء المعاهدات التي أمضوها قديما وحديثًا يجعلنا نجزم بأن القوم لا يدعون خستهم أبدا، وأنهم يرعون المواثيق ما بقيت هذه المواثيق متمشية مّع أطماعهم ومكاسبهم وشهواتهم، فإذا وقفت تطلعهم الحرام نبذوها نبذ النواة. ولو تركت الحمير نهيقها، والأفاعي لدغها، ترك اليهود نقضهم للعهود. وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه الخصلة الشنعاء في بني إسرائيل، وأشار إلى أنها أحالته حيوانًا لا أناسي، فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 55 – 56] (11).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) انظر الروض الأنف (6/ 277 - 280).
(2) فقه السيرة. ص 307.
(3) السيرة النبوية الصحيحة (2/ 430).
(4) البخاري، باب غزوة الخندق، الفتح 7/ 399. مسلم كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (6/ 197 نووي).
(5) فتح الباري (7/ 402).
(6) السلسلة الصحيحة. حديث رقم (2018).
(7) فتح الباري (7/ 402).
(8) دلائل النبوة (3/ 447).
(9) 1/ 19.
(10) 4/ 113.
(11) محمد الغزالي: فقه السيرة، ص:303.
التعليقات
إرسال تعليقك