ملخص المقال
المنظور الإسلامي الديني والحضاري يختلف عن غيره من المناظير خاصة الغربية منها، فالإسلام استخدم لفظ أهل الذمة وهو يختلف عن لفظ الأقليات
تعد مشكلة الأقليات التي ظهرت مؤخرًا في العالم الإسلامي مشكلة مستحدثة أو مفتعلة، أو بها قدر هائل من التحريض الأجنبي، وهي في الحقيقة لم تظهر إلا في إطار الصراع مع الغرب، وتحديدًا بعد مرحلة الاحتلال والنفوذ الأجنبي. ومن المعروف أن النظرة إلى القضايا الاجتماعية عمومًا، والأقليات خصوصًا تختلف على حسب اختلاف المنظور العلمي المستخدم في دراستها، وبديهي أن علم الاجتماع السياسي وغيره من العلوم الإنسانية تختلف من سياق حضاري إلى آخر؛ فعلم الاجتماع مرتبط بالسياق الحضاري الذي أفرزه، وأفرز من ثَمَّ المشكلات التي يتناولها الغرب.
والخلل هنا أن البعض يستخدم مفاهيم ومناهج علم الاجتماع السياسي الغربي باعتباره هو العلم المطلق، وهذا خطأ منهجي لا شك فيه؛ لأن استخدام مناهج هذا العلم ومصطلحاته في دراسة الحالة الإسلامية وهي حالة مختلفة كمًّا ونوعًا عن الحالة والسياق والظروف التي ظهرت في الغرب يؤدي إلى أخطاء فادحة. نحن هنا لا نفضل علم الاجتماع السياسي الإسلامي مثلاً على علم الاجتماع السياسي الغربي -وهو أفضل منه طبعًا بالنظر إلى مرجعية الربانية- ولكن نقول فقط إنه غير صالح من الناحية العلمية لدراسة ظاهرة نشأت في ظرف حضاري مختلف. ومن البديهي من ثم أن دراسة الظواهر التي تنشأ في مجتمع إسلامي تقتضي استخدام أدوات ومناهج ومصطلحات علم الاجتماع السياسي، وإلا افتقدنا أول شروط العلمية والموضوعية.
في موضوعنا هذا "الأقليات "وهي إما أقليات عرقية أو دينية أو مذهبية أو لغوية، فإن المنظور الإسلامي الديني والحضاري يختلف عن غيره من المناظير خاصة الغربية منها؛ فالإسلام مثلاً لا يفرق بين المسلمين على أساس اللون والعرق واللغة، وبالنسبة للتجمعات الدينية غير الإسلامية استخدمت الشريعة الإسلامية لفظ "أهل الذمة"، وهو يختلف اختلافًا بينًا في الأحكام والدلالات الأخلاقية والحقوق عن لفظ الأقليات، كما استخدمت الشريعة لفظ الفرق الضالة أو أهل البدع لوصف فرق دينية، مثل الخوارج والشيعة والمعتزلة وغيرهم.
الاختلاف بين الناس في الشكل واللون والفوارق والأجناس والأعراق واللغات بل وفي المفاهيم والتصورات هي حقيقة لا يمكن القفز فوقها، ولكن استخدام هذا الاختلاف في تأسيس مفاهيم الصراع والتطاحن هو المشكلة، فالإسلام يدعو إلى التعارف {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وكان هذا التنوع مصدر ثراء في المجتمعات التي تقوم على العدل، وفي المجتمع الإسلامي ذاته كانت مصدر ثراء كبير طالما كان هناك التزامًا بالشريعة الإسلامية الغراء التي تحقق الإنصاف. وإذا حدث انحراف عن الشريعة الإسلامية، وكان هناك نوع من الظلم والتهميش، فإن ذلك يقع على المجتمع كله وليس على الأقليات فقط.
ومع سقوط الخلافة الإسلامية وتشوشر أفكار النخبة، فإن مشكلة الأقليات برزت إلى السطح، ليس كحقيقة موضوعية موجودة في المجتمع، ولكن كطريقة لتحقيق طموحات سياسية، أو استخدام خارجي، أو غيره من الأسباب، بل نكاد نقول إن المجتمع الإسلامي هو الذي صك في تجربته التاريخية والحضارية أفضل نوع من التعاون والثراء عن طريق التنوع؛ فالأسود والأبيض والأحمر، العربي والتركي والإفريقي، بل وغير المسلمين أيضًا ساهموا وسُمح لهم أن يساهموا في البناء الحضاري الإسلامي، وكانوا جزءًا من الثقافة والحضارة الإسلامية، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ويمكننا أن ننظر بتأمل إلى وجود أقليات غير مسلمة في المجتمع الإسلامي، أقليات نصرانية ويهودية وغيرهما وبكثافة لا بأس بها، في وقت كانت الدول والإمبراطوريات تجبر رعاياها على اعتناق الدين والمذهب الرسمي للدولة، بل كان جزءًا من الواجب الشرعي للأمة الإسلامية هو حماية حقوق الاختيار ومنع الإكراه على الدين في أي مكان في العالم، وهذه إحدى أسباب ومسوغات الجهاد في سبيل الله.
اشتق لفظ أقلية من مادة "قلل" وهي في لسان العرب القلة ضد الكثرة، وفي الزمخشري القلة والقل كالذل والذلة. وإذا أخذنا تعريف اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، فإن تعريف الأقلية هو "جماعات متوطنة في مجتمع تتجمع بتقاليد خاصة وخصائص إثنية أو دينية أو لغوية معينة تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكان في مجتمع ما، وترغب في دوام المحافظة عليها". وتتضمن الأقليات في العالم العربي وفقًا للترتيب الهجائي "الأشوريين، الأرمن، الإسماعيلية، الأقباط، الأكراد، البربر، التركمان، الدروز، الزيدية، الصحراويين، الطوارق، العبيديين، العلويين، الكلدان، المارونيين، اليزيديين، اليهود"، وفي العالم كله توجد ثمانية آلاف أقلية إثنية "عرقية"، و7600 لغة.
ويُعرّف الباحث صلاح سعد الأقلية بأنها "جماعة من الناس تشكل عدديًّا أقلية بالمقارنة مع جماعة أخرى تعيش معها في وطن مشترك تشكل الأغلبية".
استخدام الأقليات جزء من صراع شامل
لأسباب ذاتية وموضوعية فإن مساحة كبيرة -كبيرة جدًّا من تاريخنا الإسلامي- شهد صراعًا طويلاً في الزمان والمكان، الجغرافيا والتاريخ بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، ويخطئ البعض حين يتصور أن الحروب الصليبية على الشرق (1095- 1295م) هي المحطة الوحيدة في هذا الصراع.
لقد كانت الحرب الصليبية قبل هذه المحطة، وبعد هذه المحطة، ونقصد هنا بكلمة الصليبية "المسيحية الشمالية" كما عرفها الأستاذ محمود محمد شاكر، وهي مسيحية وثنية تستند إلى التراث اليوناني الروماني أكثر مما تستند إلى المسيحية "المحرفة". ذلك أن القيصر الروماني قسطنطين حين دخل في المسيحية فإنه أدخلها هي في الوثنية الرومانية لدرجة أن طقوس ترسيم بابا الكاثوليك في روما هي نفس طقوس ترسيم كهنة المعابد الرومانية القديمة، الحضارة الإسلامية تقوم على التوحيد، العدل، الحرية، اللاعنصرية، التسامح، بينما تقوم الحضارة الغربية "الوثنية ذات القشرة المسيحية" على الوثنية والقهر والظلم والإكراه، والنهب والتعددية.
ومن ثَمَّ فإن الصدام الموضوعي كان حتميًّا، وهذا الصراع بدأ منذ البعثة المحمدية ذاتها؛ ففي حياة الرسول محمد r كان هناك خمسة مواقع للصدام مع الدولة الرومانية هي معركة مؤتة سنة 8هـ، وسرية ذات السلاسل سنة 8هـ، وغزوة تبوك سنة 9هـ، وسرية دومة الجندل سنة 9هـ، ثم بعث أسامة سنة 11هـ، وهو إدراك مبكر للرسول r لمستقبل الصراع مع الحضارة الغربية، ولم تنقطع الصراعات من يومها وحتى الآن، الصراع في الشام، وشمال إفريقيا، والأندلس، والصراع في البحر المتوسط، ثم الحروب الصليبية المشهورة، ثم الحروب المستمرة مع الدولة العباسية والسلجوقية، والعثمانية، وفتح القسطنطينية، والصراع العثماني في قلب أوربا، ثم مرحلة الاستعمار واحتلال بلاد العالم الإسلامي، ثم إقامة إسرائيل، وغزو العراق وأفغانستان... إلخ، وهكذا فهي حرب صليبية واحدة!!
وهكذا فإن الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية كان صراعًا عسكريًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا، وفي المرحلة المعاصرة، فإن ازدواج المعايير الغربية فيما يخص قضايا العرب والمسلمين واضح جدًّا، وكذا عمليات الهجوم على الرموز الإسلامية، ومحاصرة العالم الإسلامي اقتصاديًّا وسياسيًّا، ومن ثم استخدام الأقليات في هذا الصراع.
استخدام الأقليات في الصراع ليس جديدًا
مع الاحتكاك بين الحضارة الإسلامية وأوربا اكتشف الأوربيون أن هناك منظومة فكرية وثقافية إسلامية شديدة التماسك، وأن المواجهة الصريحة والمباشرة مع الحضارة الإسلامية سيؤدي إلى هزيمة أوربية لا شك فيها، ومن ثم فلا بد من اكتشاف وسائل لإضعاف القلعة الإسلامية من داخلها، وهذه الفكرة راودت لويس الرابع في أثناء أسره في المنصورة بعد هزيمة الحملة الفرنجية على مصر، فقرر إنشاء جيش الباحثين "المستشرقين" للبحث في وسائل إضعاف القلعة الإسلامية من داخلها فكريًّا وثقافيًّا، وعن طريق الأقليات الدينية ثم العرقية فيما بعد.
وقد تطورت تلك الوسائل بالطبع فيما بعد، إلا أنها تظل فكرة قديمة جديدة تقليدية مستحدثة، ويرصد الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، كيف أن قادة الحملة الفرنسية على مصر قرروا عند الانسحاب سنة 1801م اصطحاب عدد من المصريين ومن ثم أبنائهم وأحفادهم وحقنهم بالثقافة الفرنسية ليكونوا فيما بعد حزب فرنسا في مصر، وهو ما فعله تقريبًا كل الدول الغربية فيما بعد. بل إن نابليون بونابرت نفسه حينما فكر في الحملة الفرنسية اعتمد على اختراقات معلوماتية عن مصر عن طريق الأرمن المقيمين في مصر، وكذا استخدم الدجل في منشوره الذي وزعه على المصريين وقتها قبل وصوله إلى الإسكندرية سنة 1798م، حيث حاول الوقيعة بين المصريين والمماليك.
كما استخدمت الحملة الفرنسية على نطاق واسع أثناء وجودها في مصر المسألة الطائفية في اختراق النسيج المصر، وظهر في هذا الصدد عدد من أسافل القبط على حد تعبير الجبرتي مثل المعلم يعقوب الذي شكل وقاد ما يسمى بالفيلق القبطي، والذي أدى الأدوار الأكثر سوءًا في المجهود الفرنسي لقمع المقاومة الإسلامية ضد الحملة الفرنسية على مصر مثل تعذيب الثوار واستنطاقهم، أو جمع الضرائب والإتاوات، أو حتى عمليات الإفساد الأخلاقي للنساء والرجال.
ويلتقط الأستاذ محمد جلال كشك نقطة دقيقة ومهمة في هذا الصدد قائلاً: "كان الجبرتي يقسم أهل مصر إلى الأمراء وأولاد البلد وأولاد العرب أو المشايخ ومساتير الناس والزعران والحرافيش والعربان، ولكن حكومة الثورة الفرنسية قسمتنا إلى مسلمين ونصارى ويهود، وأصبح الناس في مصر -حسب المنشورات التي تصدر عن الفرنسيين- إما فرنساويًّا وإما مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا".
وعلى نفس النمط، أي استخدام ورقة الأقليات، شهدت الشام اختراقا أوربيًّا في هذا الصدد عن طريق إرساليات التبشير التابعة للدول الاستعمارية. وفي الحقيقة فإن التبشير ليس يستهدف تحويل الناس إلى النصرانية فقط، ولكن إقامة جسور مع الأقليات ومحاولة زرع التمرد داخلها، لاستخدامها فيما بعد في الصراع السياسي، أي أن التبشير والاستعمار كانا ولا يزالا طرفي مقص يؤدي كل منهما إلى الأخرى؛ فالتبشير يمهد للاستعمار والاستعمار يفتح الباب أمام التبشير على نطاق واسع. بل إن بعض المفكرين يلخص الاستعمار في كلمات هي (جنرال، ومبشر "قسيس"، وتاجر)، وتقول الدكتورة سوسن إسماعيل: "وجه المبشرون الأوربيون اهتمامهم إلى البنية المسيحية في الشام فيثيرون الخلافات في طبقاتها وأصل مذاهبها، وأن المنافسة بين البروتستانت وبين المبشرين اليسوعيين ألقت في البلاد فتنًا ومنازعات مذهبية واجتماعية، وقد تبارى المبشرون البروتستانت واليسوعيين في خلق هذه الاضطرابات بين الطوائف المسيحية ذاتها". وتضيف الدكتورة سوسن إسماعيل "منذ بداية القرن التاسع عشر غدت القنصليات الأجنبية في ولايات الشام أوكارًا للدسائس والفتن وإثارة الاضطرابات عن طريق تحريض الطوائف الدينية، وترويج الشائعات التي كانت تسبب الفتن الطائفية".
وتصل الدكتورة سوسن إلى الحقيقة الواضحة في استخدام السياسية الأوربية للأقليات قائلة: "عمدت السياسية الأوربية إلى ترسيخ قدمها في المنطقة عن طريق غرس بذور الخلاف بين الطوائف مستعينة بالإرساليات الدينية والتعليمية".
ويمكننا الربط لذلك بين ظهور إرساليات التبشير في مكان ما، أو ظهور مشكلة خاصة بالأقليات وبين تطلع الدول الأوربية لنوع من النفوذ الكبير أو الصغير في تلك المنطقة.
بل إن القوى الاستعمارية استخدمت موضوع الأقليات تحديدًا كتبرير للغزو والعدوان والاحتلال، في 11 يونيو سنة 1882م وقعت مشاجرة بين مواطن مصري يدعى سيد العجان وكان يعمل "حمّارًا" -أن يقوم بتأجير حماره للنقل والحمل- وبين مالطي من رعايا إنجلترا، واختلف الرجلان على الأجرة؛ مما أدى إلى مشاجرة تطورت إلى صدام بين المصريين واليونانيين. وترى كل المصادر التاريخية المحترمة أن تلك الحادثة مدبرة بالاتفاق بين الإنجليز والمالطي والأقلية اليونانية في الإسكندرية لإحداث مذبحة لتبرير عملية الغزو، خاصة أن السفن الإنجليزية كانت قد وصلت بالفعل إلى ميناء الإسكندرية قبل أيام من ذلك الحادث. في نفس الإطار سارت السياسية الإنجليزية في إحداث نوع من المشاكل بين المسلمين والمسيحيين في مصر، واستخدام هذه الورقة في تثبيت وتبرير الاحتلال، ووصل الأمر في عام 1911م إلى فتنة كبيرة، فتم عقد ما يسمى بالمؤتمر القبطي الذي طالب بما يسمى بحقوق الأقليات، وكانت أصابع الإنجليز واضحة وراء هذا المخطط، يقول الأستاذ طارق البشري في كتابه المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية: "إن صحيفة الوطن ساهمت في استثارة الشقاق الطائفي في مصر واصطناعه، وكانت تعكس هنا هويتها الإنجليزية".
وقد كتب بعض المنصفين من الأقباط أنفسهم متهمين الإنجليز بالتدبير وراء تلك الحوادث، فسالم سيدهم اتهم أخنوخ فانوس "رئيس هذا المؤتمر القبطي" بالخيانة وقال: "هذا أحد صنائع الإنجليز في مصر والآلة التي يحركها الاحتلال". وأضاف "أن إنجلترا تستخدم الخونة الذين لا ضمير لهم لقتل الروح الوطنية".
ويجب أن نلاحظ هنا أن الشقاق الطائفي الذي افتعله أعوان الاحتلال الإنجليزي من الأقباط وصل إلى أقصى حدوده من عام 1908م إلى عام 1911م، وهي الفترة التي كان الحزب الوطني قد وصل إلى حالة من القوة والانتشار بحيث أصبح خطرًا على الوجود الإنجليزي في مصر، وأن الإنجليز لجئوا إلى لعبة التفرقة الطائفية وبث النعرات الطائفية عن طريق عملائها كنوع من طريق الحزب الوطني وجعله في حالة دفاع؛ وذلك لمنعه من الأخذ بزمام المبادرة وتفجير الثورة الشاملة على الإنجليز في مصر.
ومن الغريب أن هذا الفكر الاستعماري قد طال الولايات المتحدة مبكرًا أي في عام 1911م قبل أن تظهر مطامعها ومشاريعها في المنطقة؛ فالرئيس الأمريكي في ذلك الوقت دعم مطالب الأقلية في مصر، وأيد مطالب المؤتمر القبطي، ووصف المسلمين بالتوحش، وقال بضرورة بقاء الاحتلال الإنجليزي لمصر لحماية الأقليات لدرجة أن صحيفة الوطن المصرية لسان حال الاحتلال ولسان حال دعاة الطائفية من الأقباط قالت إن الرئيس الأمريكي هو منصف الأقلية من الأكثرية، وإنه من الضروري استعانة الأقباط بالدول الأوربية".
لم يقتصر السلوك الإنجليزي على مصر في هذا الصدد، بل طال السودان أيضًا، ونلاحظ أن الحالة السودانية اختلطت فيها المطامع الاستعمارية بالأهداف الكنسية، بالتداخل من بين أكثر من دولة أوربية وأمريكية؛ فالمشاكل العرقية والدينية التي تثار في السودان بدءًا من التمرد في الجنوب والذي استمر إلى أن تم توقيع اتفاقية السلام الأخيرة، والتي هي بدورها اتفاقية هشة وقابلة لانهيار، وكذا التمرد في كردفان تتضح فيها الأصابع الإنجليزية والأمريكية بل والمنسية من مختلف البلدان. يقول الأستاذ حسن مكي في كتابه (التبشير المسيحي في العاصمة المثلثة): "إن التدخل في الشئون الداخلية للدول يعد جزءًا من الدور الاستعماري الذي تقوم به المؤسسات التنصيرية حيث تعد ذلك جزء من عملها لقيام إمبراطورية نصرانية تسيطر على العالم؛ ففي جميع الدول التي أقام بها دعاة التنصير مراكز لهم، أصبح هذا الدور واضحًا، فقد قام مجلس الكنائس بدور بارز في ذلك".
في الإطار نفسه تأتي سلوكيات بلد مثل فرنسا في المغرب العربي حيث لعبت دورًا بارزًا في إثارة وخلق وزرع ما يسمى بالمشكلة الأمازيجية، ولا تزال تلعب بتلك المشكلة حتى الآن مع دخول أطراف أخرى على الخط، وكذا الممارسات المعروفة من إنجلترا تجاه المشكلة الكردية في العراق بل وإيران وتركيا منذ وقت مبكر، إلى أن قامت الولايات المتحدة بالحلول محل الدول الاستعمارية التقليدية في هذا الصدد".
استخدام الأقليات في الصراع في الحقبة الأمريكية
ورثت الولايات المتحدة النفوذ الاستعماري البريطاني والفرنسي والأوربي عمومًا في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وورثت منه تقاليد المدرسة الاستعمارية في استخدام الأقليات في الصراع، وبديهي أنها طورت في الوسائل والأساليب وصبغت المسألة بصيغتها الخاصة، والولايات المتحدة قامت أصلاً من خلال جريمة كاملة هي جريمة إبادة الهنود الحمر ثم استرقاق السود ثم ممارسة العنف والقهر والعنصرية بطريقة لم يسبق لها مثيل، وتحالفت الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني ودعمته دعمًا شاملاً، وبالطبع لا يمكن وضع تواصلاً زمنيًّا محددًا بين المرحلة الأمريكية وما قبلها، فهناك تداخل زماني ومكاني، وهناك استمرارية لدور الكنائس الغربية ومراكز التبشير في العملية الاستعمارية والغربية في المرحلتين الأوربية والأمريكية.
ففي السودان مثلاً استمر الدعم الكنسي للتمرد في الجنوب، وكذا الدعم الأوربي، بالإضافة إلى الدعم الأمريكي، واستمر الدعم والممارسات التآمرية الفرنسية في موضوع الأمازيج، بالإضافة إلى دخول الولايات المتحدة على الخط. وبديهي أن كل حركات التمرد العرقي، أو حركات الخصوصية الثقافية أو مجرد المطالبة بمطالب مشروعة لرفع الظلم عن الأقليات أمورٌ متداخلة بحيث لا يمكن فصلها على مستوى السلوك والأفراد والمؤسسات بل والمفردات المستخدمة. ونلاحظ أيضًا أن الحقبة الأمريكية تميزت بحالة جديدة وهي أن طلب الدعم الخارجي أصبح موجودًا لدى قطاعات من الأقليات أو بعض هوامشها مثل أقباط المهجر المصريين مثلاً، ومن ثَمَّ فإن الأمر لم يعد مقصورًا على الاختراقات الأمريكية والكنسية لدفع الأقليات إلى التمرد أو المشاكسة، بل أصبح الأمر متبادلاً بين الطرفين، وهذا لا يمنع من وجود قومي داخل الأقليات تتمسك بالثوابت الوطنية.
وبعد أن كانت الاختراقات الأجنبية في الأقليات تمس قوى هامشية داخل تلك الأقليات، اتسعت المسألة بل وأصبحت تلك القوى الهامشية قوى رئيسية، بل بعضها أصبح هو القيادة داخل تلك الأقليات، الأمر الأكثر أهمية في هذا الصدد أن سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء هامش المناورة واللعب على المتناقضات الثانوية بين الرأسمالية والشيوعية، أو المنظومة الغربية والمنظومة السوفيتية جعل من الصعب مواجهة المشروع الأمريكي بسهولة، وهذا المشروع يمكن أن نطلق عليه المشروع الأمريكي الصهيوني؛ نظرًا للدور الكبير وتحقيق أهداف صهيونية واضحة داخل هذا المشروع، وهذا المشروع استهدف ضمن ما استهدف القضاء على الحضارة الإسلامية، وإعادة احتلال وتمزيق العالم الإسلامي، واعتبار الإسلام هو الخطر الأهم عالميًّا بعد انتهاء الخطر الأحمر، والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الذي شهد نهاية الاتحاد السوفيتي قال يومها: "إن أخطر ثلاث حركات في القرن العشرين هي النازية والفاشية والإسلام الأصولي".
ويقول مساعد وزير خارجية الأمريكية الأسبق ريتشارد شيفر: "إن الإسلام يمثل تهديدًا كبيرًا للاستقرار العالمي".
والكاتب الأمريكي بيتر رومان كتب في مجلة (ذا ناشونال ريفيو) يقول: "نحن لا نظلم الإسلام عندما نعتبره عدونا الجديد الذي يحل محل الشيوعية".
وبصعود ما يسمى بالخطر الإسلامي أصبح من الطبيعي محاولة اختراق أمريكية للإسلام والمجتمع الإسلامي من داخله، أو على الأصح تكثيف ذلك؛ لأن هذا الأمر كان موجودًا بالفعل، ومن ثم استخدام الأقليات في تلك المسألة، الأقليات الدينية كالأقباط في مصر، والأقليات المذهبية كالشيعة في العراق، وكالأمازيج في المغرب، بل والنوبة في مصر، ومشاكل الأعراق في السودان، وغيرها مما لا يمكن حصره.
وقد يرى البعض أن ذلك ارتبط بحادث "سبتمبر 2001م"، ولكن الحقيقة أن الأمر ارتبط بسقوط الاتحاد السوفيتي، وشهدت الأعوام التي تلت تفكك المنظومة الاشتراكية في تسعينيات القرن الماضي جهدا أمريكيًّا دءوبًا في هذا الصدد، من ناحية رصد الأموال واختراق المنظمات التابعة لتلك الأقليات، وتمويل المراكز الثقافية لنشر ما يسمى بالثقافات البائدة كلغة الأمازيج، ولغة النوبة، ووضع قواميس ومعاهد ودورات ومناهج تدريسية في هذا الصدد، وكذا اختراق التشكيلات الشيعية والكردية وغيرها، بل ووصل الأمر إلى حد اختراق بعض المراكز الإسلامية السنية بهدف خلق ما يسمى بالإسلام الليبرالي. وفي الحقيقية فإن النجاحات الأمريكية في هذا الصدد كانت في موضوع الشيعية العراقيين، والأقباط في مصر وخاصة أقباط المهجر.
وهكذا فإن استخدام الأقليات كان جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية فيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، وإذا قرأنا تقارير مراكز الأبحاث التي تصدرها المراكز الأمريكية في هذا الصدد وجدنا موضوع الديمقراطية المزعومة وتحريك الأقليات ودعم مشاركة المرأة هي السمات البارزة في هذا الصدد، وبالطبع بطريقة جزئية ومنحرفة وليست نزيهة، والاستراتيجيات التابعة للمؤسسات عن مشروع (الشرق الأوسط الجديد) أو الواسع، أو الممتد أو الكبير، أو غيرها من أسماء نفس المشروع كلها تنمو نفس النمو، وهي مشروعات رسمية نسبت إبان صدورها إلى وزراء خارجية أمريكية مثل وزير الخارجية السابق كولين باول، أو الحالي كوندليزا رايس، أو الرئيس الأمريكي نفسه.
وحتى وثائق المحافظين الجدد والمعروفة والمنشورة منذ عام 1997م وحتى الآن، والتي رصدها عدد من الكتاب الأمريكيين "نورمان بورهوردز" في صحيفة كومنتري، والكاتب "ديفر بيت" في النيويورك تايمز"، وصاحب كتابي "الحرب على العراق، والصمت أكبر جريمة"، فإن استخدام الأقليات محور مهم من محاور مشروع هؤلاء المحافظين الجدد، والوثيقة المنشورة عام 2000م والمنسوبة إلى رموز تلك الجماعة مثل ديك تشيني، وإليوت أبرامز، وريتشارد بيرل وغيرهم، والتي تتحدث عن الإمبراطورية الأمريكية والقرن الأمريكي وضعت شروط لتحقيق ذلك هي إعادة صياغة الإسلام، وتحطيم الأكثرية السنية، ودعم الأقليات.
وفي يونيو 2006م نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية تقرير كتبه "رالف بيترز" -وهو كولونيل سابق في الجيش الأمريكي خدم في شعبة الاستخبارات العسكرية- تحدث فيه عن تقسيم الشرق الأوسط من جديد وإقامة دولة مركزية تقتطع أجزاء من العراق وإيران وتركيا وسوريا ودولة شيعية في جنوب العراق وإيران ومناطق أخرى من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، ودولة مارونية درزية في جبل لبنان، وزيادة مساحة الأردن على حساب السعودية، أي المحصلة تفكيك الدول الكبيرة مثل تركيا وإيران والسعودية، ثم يأتي بعد ذلك الدور على مصر ليتم تفكيكها مع تفكيك السودان والمغرب... إلخ".
وهذا التصور يتفق مع التصور الإسرائيلي، حيث قال الصحفي الإسرائيلي حابي بازور في صحيفة يديعوت احرنوت: "إن المنطقة بوضعها الحالي خطرًا على إسرائيل، ولا بد من خريطة جديدة للمنطقة بتقسيم العراق وإيران".
بالنسبة للعراق التي تعرضت لاحتلال منذ عام 2003م فإنه من المعروف حضاريًّا وتاريخيًّا "أن موقع العراق الجيويولوثيكي حتى بعد ولادة الدولة الحديثة ورسم حدودها الدولية، ربط بين مصيره ومصير الجوار العربي والإسلامي، وأن انقسام العراق وانحطاطه مؤشرٌ على انقسام المنطقة وانحطاطها، واستقرار العراق ورخاءه مؤشر على استقرار المنطقة ورخائها، وأن سُنَّة العراق هم الرابط الأساسي في ذلك البلد؛ لأنهم سنة مع أكراد، وعرب مع شيعة، وهم لا ينظرون إلى أنفسهم كطائفة بل كحاضنة عريضة للإسلام ولم يظهر دستورًا طائفيًّا إلا عندما داهم الخطر والاعتداء" .
ولم يعرف العراق منذ تأسيس الدولة الحرب الأهلية رغم التنوع العرقي والديني والمذهبي الذي يتميز به إلا بعد الاحتلال الأمريكي والتواطؤ الشيعي الأمريكي، وقد اعتمد الأمريكان بصورة واضحة في احتلالهم للعراق على استخدام الأقليات وخاصة الكردية والشيعية، ولا يعد التنوع العرقي والديني والمذهبي في العراق الحديث حالة خاصة ولا استثناء، لا بالمقاييس الإسلامية التي حلت تلك المشكلة أصلاً بالنظر إلى رحابة الإسلام وتسامحه وإمكانية أن يتحول التنوع إلى مصدر قوة، ولا حتى بالمقاييس الأوربية؛ فمعظم الدول الأوربية فيها هذا التنوع، بريطانيا مثلاً فيها الأسكتلنديون، والإنجليز، والويلزيون والأيرلنديون، وفيها بروتستانت وكاثوليك، وكذا مسلمون بعد الهجرة.
ومن ثَمَّ فإن الحرب الأهلية -أو ما شبه الحرب الأهلية- أو الصدام السني الشيعي أو التطهير العرقي، وحتى العراق كدولة ظهر إلى الوجود نتيجة تقسيمات أوربية أصلاً، ولم يُستشَر أهل العراق في ذلك طبعًا، وهذا لا يمنع بالطبع من الإشارة إلى ضرورة تحقيق العدل، وعدم الهيمنة والسماح بالتعبير عن الخصوصيات الثقافية، والإشارة أيضًا إلى أن ما تم من أمور في هذا الإطار، لم تكن سياسية سنية في إطار حكم صدام حسين، ولكنه كان مجرد نظام اصطدم بكل من يعارضه، سنة وشيعة وأكراد، وليس باعتبارهم سنة وشيعة وأكراد بل باعتبارهم معاديين للنظام، أو اتهامه لهم بالعمالة لدول إقليمية أو دولية. ومن ثم فإن تصوير نظام الرئيس صدام حسين على أنه نظام حكم عربي - سُنِّي اضطهد الشيعة والأكراد هو تصوير مخادع وغير صحيح، بل إن من الضروري أن نقرر أن نظام البعث نشأ نشأة علمانية أولاً، واستخدم العنف ليس في مناطق الأكراد والشيعة، ولكن في منطقة الرمادي السنية مثلاً، عندما استشعر تمردها في منتصف التسعينيات.
ويجب أيضًا أن نشير إلى عروبة العراق بدأت بالوجود العربي قبل الإسلام في حوض الفرات، وتأكدت بهجرة العرب المسلمين إبان الصدام مع الفرس وبعد تأسيس الدولة الإسلامية على مدى زمني طويل، واستطاع الإسلام أن يصهر داخل العراق مختلف الأعراق، وتم اعتبار ذلك نوعًا من القوة وليس العكس، ولكن عندما ظهرت فكرة القومية الحديثة، وهي فكرة أوربية أساسًا، نقلها أتباع الاتحاد والترقي التركي، ومارسها القوميون الأتراك ضد فكرة الجامعة الإسلامية، وظهرت حركة قومية عربية نزعت نزعة علمانية فيما بعد، وعادت بدورها فكرة الجامعة الإسلامية، فلا نستطيع أن ندين ظهور نزعة قومية كردية معادية للعرب مثلاً، إلا إذا وقفنا موقف الإدانة من كل تلك الحركات القومية.
ومن ثم فإن الفكرة القومية هي بدايتها فكرة خاطئة لا يمكن بها تبرير الاستمرار في حكم الأكراد مثلاً؛ فالأكراد وغير الأكراد قبلوا الحكم الإسلامي عربيًّا أو تركيًّا أو حتى كرديًّا، ويرحبون بالتقريب إذا كان في إطار إسلامي، وظهر منهم زعماء أمثال صلاح الدين، وكذا وقياسًا عليه الأمازيج والنوبة، بل وحتى غير المسلمين مثل الأقباط والنصارى بكل طوائفهم قبلوا الحضارة الإسلامية كثقافة وكوطن. المهم في الأمر أن المسألة الكردية لم تظهر إلا بعد الحرب العالمية الثانية بصورتها الانفصالية والعرقية... وعانت ما عانت من اضطهاد عرقي علماني، ولكنها سارت في الشوط إلى حافة الخيانة حيث ارتبطت بمشروعات استعمارية بريطانية ثم أمريكية، بل وأحيانًا مدت الجسور مع "إسرائيل"، وهذا أمر مرفوض وطنيًّا وحضاريًّا قبل أن يكون مرفوض إسلاميًّا.
استخدمت الولايات المتحدة الورقة الكردية خاصة بعد عام 1991م، وحققت للأكراد منطقة آمنة، ومنعت العراقيين في عهد صدام من اجتثاث الحركة الكردية، والأمر نفسه بصورة أقل بالنسبة للشيعية منذ عام 1991م. ويلخص الدكتور حامد محمود عيسى في كتابه (القضية الكردية في العراق من الاحتلال البريطاني إلى الغزو الأمريكي) المسألة بقوله: "إنه لا شاه إيران ولا رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية كان يرغب في انتصار الكرد، بل كان يرغب في استمرار الثورة الكردية متأججة بالقدر الذي يسمح باستخدامها في المعادلات الإقليمية".
وفي تقرير للجنة شكلها الكونجرس عام 1975م والمعروفة بلجنة pike "لقد كانت سياستنا غير أخلاقية تجاه الكرد، فلا نحن ساعدناهم ولا نحن تركناهم يحلون مشاكلهم بالمفاوضات مع الحكومة العراقية، لقد حرضناهم ثم تخلينا عنهم".
وقد وصف المحلل الأمريكي وليم سافير تدخل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية ومسئوليته في تدمير الكرد في كتابه "الأكراد والضمير" بأن الولايات المتحدة وإيران كانتا تحتاجان إلى الكرد لمقاومة المد السوفيتي، ومن ثم كانا يمدون الكرد بالأسلحة ويقدمان للكرد التمويل لاستقلال ثقافتهم، وعندما حلت المشكلة توقف الدعم والتمويل توقفًا تامًّا، وكانت خطة ناجحة لكل منهما بعكس الكرد، وختم وليم سافير مقاله بقوله: "هذه هي المدنية المنهارة، شعب يباد والولايات المتحدة باعتبارها مسئولة جزئيًّا عن هذه الحالة، لم ترفع أي صوت للاحتجاج".
وهكذا فإن استخدام الولايات المتحدة، ومن قبلها الدول الأوربية لموضوع الأقليات لم يكن -ولن يكون- إلا نوع من استخدامها كورقة في المعادلات الدولية والإقليمية، ثم تركها تدفع الثمن وتواجه مصيرها المشئوم وتتعرض حتى للإبادة، وهي خبرة يجب على الأقليات أن تدركها فتمنع قيادتها من العمالة للخارج، أو تقديم طلبات طائفية أو عرفية أو مذهبية على حساب الأوطان، أو لعب دور هدّام في المجال الثقافي مثلاً.
المصدر: موقع المسلم.
التعليقات
إرسال تعليقك