ملخص المقال
أي جهد تربوي أو سياسي أو دعوي، وأية إضافة علمية أو فكرية أو ثقافية تستمد مقوماتها من الكتاب والسنة يمكن أن تقود جميعها إلى المطلوب
إن "المشروع الحضاري" الذي ينادي به المسلمون اليوم يستهدف -كما يتضح من اسمه- مستوى حضاريًّا على وجه التحديد. فهو -من ثَمَّ- ليس محاولة روحية أو شعائرية أو سلوكية أو تربوية أو علمية أو فكرية أو ثقافية أو سياسية أو دعوية أو حركية صرفة، وإنما هو هذا كلّه.
قد تغذّي حلقات كهذه بنية المشروع وتزيده قدرة على التحقّق هنا وهناك، ولكنها إذا عملت بمعزل عن بعضها البعض فإنها قد لا تأتي بشيء (كما حدث عبر القرن ونصف القرن الأخير).
إن المخاطب هنا هو (الأمة) الإسلامية، والمشروع الحضاري يعني إعادة صياغة أمة بكاملها.. تعديل وقفتها الجانحة، وبثّ روح الإبداع والحركة في مواتها لكي تمضي على الطريق الصحيح.. "الصراط" الذي أراده لها كتاب الله وسنة رسوله r وممارسات الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
المخاطب هو الأمة التي يراد لها التحقّق بمقاصد الشريعة والشهادة على الناس والتاريخ.. وتحويل حياتها إلى تعبير أكثر مقاربة لما يريده الله ورسوله r. وهي -بالضرورة- مهمة شمولية تنطوي على بُعدٍ حضاري، بل إن المشروع الإسلامي منذ لحظات تأسيسه الأولى زمن رسول الله r مشروع حضاري يستهدف الخروج بالناس من الظلمات إلى النور، وابتعاثهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده..
ويضع بين أيديهم -بمبادئ الاستخلاف والتسخير والأعمار، وتحفيز آليات العمل العقلية والحسية والروحية- مفاتيح الإبداع والقوة والفاعلية الحضارية في نهاية الأمر.
على ذلك فإن المشروع الحضاري يتوجه صوب فضاء واسع هو فضاء الأمة الإسلامية على امتدادها في الزمن والمكان.. في التاريخ والجغرافيا، ويضع نصب عينيه أنه ليس مجرد سعي مرحلي، أو حركة متموضعة في بيئة محدّدة أو لحظة زمنية (وإن كان يبدأ منهما)، وإنما هو نشاط موصول لتحقيق هدف قد يستغرق أجيالاً بكاملها.. لا سيما إذا ذكرنا أن إصلاح حالة خاطئة شديدة التعقيد، أكثر استعصاءً بما لا يقاس من التأسيس ابتداءً.
إننا هنا إزاء ركام القرون الطوال.. وفي الوقت نفسه إزاء الفراغ المفاجئ، أو الانكسارات الدرامية، التي شهدتها عبر نصف القرن الماضي جُلّ المذاهب والمحاولات الوضعية أو الدينية المحرفة، في الساحة الإسلامية وخارجها على السواء.
لكن كيف يتأتى تحويل مطالب المشروع من مستوياته التنظيرية إلى واقع الحياة اليومية الإسلامية، لكي ينسج خيوطها بمقاصد شريعة الله ومفرداتها؟!
لمّا كان الخطاب يحمل رؤية حضارية، فسيكون كل جهد مبذول في الساحة الإسلامية بمنزلة رافد سيصبّ -مهما دقّ وضؤل- في المجرى الكبير الذي يمكن أن يتأكد حضوره واتساعه يومًا بعد يوم بقدر ما يصبّ فيه من جهود وطاقات ومحاولات.. شرط أن تتمحور هذه كلّها عند هدف واضح محدّد، هو أن تستعيد هذه الأمة هويّتها الحضارية الضائعة.
الفعل قائم منذ زمن بعيد قد يمتد لأكثر من قرنين، لكن توظيفه في سياق خطاب حضاري يستهدف مشروعًا يخرج بالأمة من تخلّفها ومعاناتها، ويكسر حلقة السوء المفرغة.. وهذا هو المطلوب؛ تجاوز بعثرة الطاقات والخبرات والمعطيات وارتطامها، ونفي بعضها البعض الآخر، إلى برنامج عمل يستهدف لمها وإضافة بعضها إلى بعض، وتحقيق أقصى حالات الوفاق بين مفرداتها، وتوجيهها لكي تصبّ في البؤرة الواحدة أو المجرى الواحد الذي يمضي لتحقيق مطالب المشروع الحضاري.
وبالتالي فإن الأولوية التي تفرضها المعادلة تقتضي جهدًا مركبًا ذا طبقتين: أولاهما رسم خارطة عمل قديرة على احتواء كل نشاط إسلامي على مدى عالم الإسلام كلّه، والتنسيق بين مفرداته وجعلها تمضي صوب البؤرة الواحدة. وثانيهما تحفيز إرادة العمل والعطاء والإبداع على كل المستويات لإنضاج المزيد من الثمار وإغناء المشروع على مستوى الكم والنوع على السواء.
بمعنى أن أي جهد روحي أو تربوي أو سياسي أو دعوي أو حركي.. أية إضافة علمية أو فكرية أو ثقافية.. أي بحث ينجز أو كتاب يؤلف.. أية مؤسسة تقوم، وأية تجربة أو خبرة تستمد مقوّماتها من كتاب الله وسنة رسوله r يمكن أن تقود جميعها إلى المطلوب.. شرط توفّر قيادة فكرية ذات نمط عالٍ من الكفاءة والمرونة والتحرّر من أوهاق الماضي، تأخذ على عاتقها مهمة تجميع الطاقات والتنسيق بينها للتحقّق بأقصى حالات الوفاق في المعطيات الإسلامية على مدى جغرافية الإسلام.
د. عماد الدين خليل
المصدر: موقع مجلة الفكر الحر.
التعليقات
إرسال تعليقك