جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
تمثل تايلاند حالة نموذجية في سياق الإعلان الأمريكي الحرب على الإرهاب، فهي تسعي للقيام بدورٍ إقليمي في منطقة جنوب شرق آسيا، فهل يصبح مسلمو تايلاند قربان
يعاني المسلمون في أنحاء متفرقة من الكرة الأرضية من اضطهاد وتفرقة عنصرية على المستويين الحكومي والشعبي على حد سواء، وتبرز القضية الأخطر في محاولة محو الهوية الإسلامية في ظل إعلام غربي يرسخ لمبادئ الانحلال وإعلام عربي وإسلامي ضعيف لا يصل إلى الجاليات المسلمة أينما كانت فضلا عن أن يتصدى للدفاع عنها.
تعداد المسلمين في أوروبا والأمريكتين
ويبلغ عدد المسلمين الذين يقطنون الدول غير الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي نحو (450) مليون مسلم على مستوى قارات العالم الست، وهو ما يقدر بثلث عدد المسلمين، وعلى وجه التحديد يزيد عدد المسلمين في دول الغرب عن (25) مليون نسمة، يعيش منهم (16) مليون مسلم في أوربا - عدا ألبانيا والبوسنة حيث المسلمون أكثرية- و(8) ملايين مسلم في الأمريكتين، وحوالي نصف مليون مسلم في أستراليا.
تعاني الأقليّات المُسلمة في هذه الدول من اضطهاد منظَّم حوَّل حياة المسلمين في هذه البلدان إلى سجنٍ كبير، وزاد هذا الاضطهاد بعد إطلاق ما أسماه الرئيس الأمريكي بوش"الحرب على الإرهاب"، وكأنها الضوء الأخضر لكلّ الحكومات أن تفعل ما يحلو لها من قمعٍ, وتشريدٍ بالمسلمين؛ بصفتهم خطراً لا يقبل التكيف مع المتطلبات الأمريكية لإعادة صياغة العالم.
مسلمو تايلاند والإرهاب الأمريكي
و تمثِّل تايلاند حالة نموذجية في هذا السياق، فهي تسعي للقيام بدورٍ إقليمي في منطقة جنوب شرق آسيا على حساب إندونيسيا، مستغلّةً العنوان الأمريكي "الحرب على الإرهاب". فهي تعتبر الأقليّة المسلمة الكبيرة مقصودة بالحرب على الإرهاب، وأن كلّ شخصٍ فيها موضع شكٍّ بصفته- وفق المعايير الأميركية- مشروعاً إرهابيا. فقد بدأت في القبض العشوائي على كلِّ من يُبدي ميولاً إسلامية ظاهرة مثل إطلاق اللحى, أو لبس الملابس البيضاء, أو ارتداء النساء الحجاب، أو الانخراط فيما يُعدّ نموًّا عاديًّا لظاهرة التدين الإسلامي مثل بناء المساجد, أو الحج، أو القيام ببعض الأنشطة الاجتماعية, والثقافية المعروفة.
في حين لم تسمع لمطالب المسلمين في الإقليم بعدم التوسع في المشاريع السياحية التي تهدد تقاليد المنطقة التي تحترم الدين, والعادات، هذا فضلاً عن جهدِها في التعاون مع المخابرات الأميركية بشأن القبض على مطلوبين إسلاميين يتجولون في المنطقة الواسعة، أو حتى اصطناع قضايا ذات طابعٍ إرهابي؛ لتقديم نفسها كرقمٍ إقليميٍ مهم, وحليفٍ لا يمكن الاستغناء عنه.
مسلمو تايلاند .. معايير أميركية للإرهاب !
وفي نفس الوقت استجابة للضغوط الأمريكية التي ترى أن جنوب تايلاند منطقةٌ تعمل فيها الجماعات الإسلامية، التي تُصنِّفها أميركا كجماعاتٍ إرهابية. ونتيجةً لتعرُّض المسلمين للاضطهاد, والتمييز, والحرمان من حقوقهم السياسية, والاجتماعية, والثقافية، فإن حركات المقاومة أُجبرت على الظهور في الإقليم الجنوبي؛ للوقوف ضدّ عنف الدولة, وبطشها لطمس الهويّة الثقافيّة, والاجتماعيّة للمسلمين لصالح الدولة البوذيّة القوميّة.
هذا العنف الرسمي المدعوم بالمطالب الأميركية من ناحية, والذي يخدم الاستراتيجية الجديدة لتايلاند كفاعلٍ إقليميٍ من ناحيةٍ أخرى قاد إلى تصاعد موجات التمسك بالهوية الإسلامية وإنشاء "الجبهة المتّحدة لتحرير قطاني"، كآليّة دفاعيةٍ وردٍ على محاولات تذويب الوجود الإسلامي في جنوب تايلاند لصالح القومية السيامية لتايلاند.
وبدأ ما يطلق عليه المراقبون "ميلاد دورات العنف"، حيثُ يسعى المسلمون للقيام بمظاهرات، للمطالبة بمطالب عامّة لدفع سياسة الدولة الجديدة، أو إيقافها خاصّة مع مجيء رئيس الوزراء تاكسين شيناواترا للحكم عام 2001، والذي غذَّى موجات أصولية ذات طابعٍ بوذيّ بين قطاعات واسعة من الشعب التايلاندي ضدّ المسلمين في الجنوب، ولعل مشاهد العنف المريعة التي يرتكبها الجيش, والشرطة بحقّ المسلمين خير مثال على هذا التوجه، فالتقديرات تشير إلى أن ضحايا العنف الرسمي من جانب الدولة بلغ (400) قتيل عام 2001، كذلك اختطاف الجيش التايلندي المسلمين في الجنوب؛ بهدف نشر الخوف بين أفراد الأقلية المسلمة، دعا منظمة العفو الدولية لاتهام الجيش التايلاندي بانتهاج سياسة "الاختفاء القسري" بحقّ المسلمين في الولايات الجنوبية؛ بهدف إضعاف الجماعات المسلحة، ونشر الخوف بين أفراد الأقليّة المسلمة.
وتايلاند ذات الأغلبية البوذية يشكل المسلمون فيها 5% من إجمالي السكان الذين يبلغون (64.6) مليون نسمة، ويتركز المسلمون في أربع ولايات في أقصى جنوب تايلاند، يمثلون الأغلبية فيها وهي: ناراثيوات ويالا وسونجخلا وباتاني التى تبلغ نسبة المسلمين فيها وحدها أكثر من 80% من مجموع السكان ( 3.5 مليون نسمة).
وإقليم باتاني الذي يقع بين تايلاند وماليزيا ويضم 18% من سكان تايلاند (حوالي 5- 8 ملايين مسلم) تنشط به منذ عشرات السنين حركة إسلامية قوية تدعو لإنشاء دولة إسلامية تضم أقاليم (يالا وباتاني وناراثيوات) ذات الأغلبية المسلمة في الجنوب، وهناك مناوشات مستمرة بين الحكومة التايلاندية البوذية وهؤلاء المسلمين تصل لحد الانتهاكات الصارخة لحقوقهم وتعذيبهم.
تايلاند .. حرب الهوية !
ويبرز العديد من التحديات ضدّ المسلمين في باتاني خاصّة، حيثُ تحاول السلطات البوذية التايلاندية إضعاف شوكة المسلمين, وإذابتهم في الكيان التايلاندي، عبر طرق ووسائل عديدة منها؛ تغيير أسماء المسلمين, وتغيير أسماء القرى, والولايات، وإلغاء حجاب المرأة، وإعادة توزيع وتهجير البوذيين إلى باتاني؛ للحد من الأغلبية المسلمة، وإضعاف اقتصاديات المناطق المسلمة، وذلك بتمليك أخصب الأراضي للبوذيين، ومحاربة التعليم الإسلامي، ومحاولة فرض اللغة التايلاندية في دواوين الحكومة، وتشجيع التنصير، والبعثات التنصيرية للعمل في البلاد، والدس ومحاولات تزييف الكتب الإسلامية التي تطبعها الحكومة.
وسبق أن أصدرت منظمات دولية وحقوقية تقارير عن اضطهاد مسلمي باتاني، كان آخرها تقرير لجماعة "هيومان رايتس ووتش" الحقوقية ومقرها نيويورك دعت فيه تايلاند لبدء تحقيق فيما أسمته "المستوى المرتفع من القوة المميتة" في التعامل مع احتجاجات المسلمين حيث اختارت أسلوب القوة في كل مرة وهدمت مسجد "كروي سي" علي رؤوس المسلمين داخله وحشدت فرقتين مدرعتين كاملتين في الإقليم لإرهاب المسلمين.
و تلجأ قوات الأمن التايلاندية في كل مرة إلى العنف الشديد تجاه الشبان المسلمين الذين يتظاهرون باستمرار أمام مراكز الاعتقال والشرطة مطالبين بإطلاق سراح إخوانهم المعتقلين بلا تهمة، وبلغت الممارسات الأمنية التعسفية ضد مسلمي الإقليم إلى حد قصف 30 منهم تحصنوا داخل مسجد وهدمه على أشلائهم (إبريل 2006).
والتفسير الوحيد لهذا الأسلوب العنيف الذي تتبعه الحكومة هناك ضد مسلمي الإقليم أنه تعبير عن حالة من الهلع الشديد من جانب الحكومة البوذية تجاه تنامي دور التيار الإسلامي في هذا الإقليم الجنوبي والاستفادة من أجواء العداء الدولي ضد المسلمين لقمع أي تمرد أو انفصال يسعى إليه مسلمو الإقليم بدعوى أنهم "إرهابيون"!
التذويب بالسياحة والرذيلة
وتتميز مناطق جنوب تايلاند ذات الأغلبية المسلمة بأنها من المناطق السياحية الهامة في البلاد ويرتادها سياح غربيون بكثرة خاصة أنها تقع على الحدود مع ماليزيا أكبر نمور آسيا تقدما اقتصاديا، ولكن هذه السياحة ترتبط بانتشار الرذيلة وتجارة الجنس التي تنتشر في تايلاند بشكل وبائي، كما ترتبط بمئات الخمارات وأندية الليل التي تدمر حياة مسلمي الإقليم وتتعارض مع تعاليم دينهم.
وقد سعت حركة تحرير باتاني (بولو) عدة مرات لمعارضة هذه السياحة المدمرة، ودعى بيان منسوب لحركة بولو الإسلامية، وهي اختصار لمنظمة تحرير باتاني المتحدة، شعب مالاي في جنوب تايلاند والمسلمين في أرجاء البلاد إلى اتباع التعاليم الإسلامية.
ويرى بعض المراقبين أنه يمكن لماليزيا أن يكون لها تأثير فعّال في معالجة الاضطراب الحالي في جنوب تايلاند، في ضوء القواسم المشتركة التي تربط بينها, وبين الأغلبية المسلمة في هذه المنطقة، وفي مقدمتها الدين،والثقافة،والتقاليد،واللغة،والروابط الوثيقة للأسر على جانبي الحدود، ولتضررها الأمني من موجات الفرار الجماعي واللجوء السياسي من مسلمي الأقاليم التايلاندية الأربعة الجنوبية وهي ناراثيوات ويالا وباتاني وسونجخلا وإن كان ذلك يتوقف أيضاً على تحقيق أماني أهل الجنوب في إنهاء التمييز, والقمع والإهمال الذي تعرضوا له لفترة طويلة.
التعليقات
إرسال تعليقك