التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
مملكة البجة هي إحدى الممالك التي تكونت في السودان والنوبة، وعاصرت الفتح الإسلامي لمصر، وكانت لها علاقات قوية مع مصر خاصة الإسلامية، وكان لها دور كبير في
تُحدُّ بلاد البجة شمالًا بمنطقة الصحراء الشرقيَّة الممتدَّة بين الأقصر على النيل في صعيد مصر والبحر الأحمر. يقول ابن سُليم الأسواني: "أوَّل بلد البجة من قريةٍ تُعرف بالخربة من معدن الزمرُّد في صحراء قوص، وبين هذا الموضع وبين قوص ثلاث مراحل"[1]. وتقع مدينة قوص إلى الشمال قليلًا من مدينة الأقصر الحاليَّة، ويُوضِّح هذا أنَّ حدود بلاد البجة كانت تمتدُّ في الصحراء شمالًا إلى مناطق أبعد بكثير من امتداد مناطقها الحاليَّة.
وجعل ابن سليم حدِّ البجَّة الجنوبي بأوَّل بلاد الحبشة، حيث قال: "وآخر بلاد البجة، أوَّل بلاد الحبشة". غير أنَّ الحدود بين بلاد الحبشة وبلاد البجة لا تبدو واضحة المعالم في المصادر العربيَّة، بل لم يرد اتِّفاق حول تحديدها؛ فابن سليم -مثلًا- يرى أنَّ ساحل البجة يمتدُّ حتى جزيرة سواكن وباضع ودهلَك.
ذكر الحميري: "إنَّ باضع تقع على ساحل البجة والحبشة"[2]. وجعل ابن حوقل الحدود الجنوبية لبلاد البجة أعالي خور بركة بالقرب من باضع حيث بطون قصعة[3]. أمَّا اليعقوبي فقد ذكر تحت عنوان "مملكة البجة" أنَّ "لهم عدَّة ممالك". وتتبعها من الشمال إلى الجنوب، فكانت آخر ممالكهم وهي السادسة "مملكة النجاشي ... وساحلهم دهلَك"[4]. فالحدود الجنوبية لبلاد البجة تمتدُّ حتى شمال دولة إثيوبيا الحاليَّة.
ويُعتبر نقش ميناء عدولي الذي يرجع إلى عهد بطليموس الثالث في القرن الثالث قبل الميلاد من أقدم الآثار التي ورد فيها اسم البجة؛ فقد جاء في النقش أنَّ بطليموس أخضع عددًا من الشعوب على ساحل البحر الأحمر والمناطق الداخلية ومن بينها البجة[5]. ويعني هذا أنَّ شعبًا باسم البجة كان ذا قوَّةٍ في منطقة البجة الحاليَّة أخضعه بطليموس.
وأغلب الظنِّ أنَّ البجة كانوا عائشين في المنطقة، ولم يرد اسمهم في المصادر اليونانيَّة والرومانيَّة لأنَّها لم تتناول أغلب شعوب المنطقة بأسمائهم بل تناولتهم بأنواع غذائهم، ولابُدَّ أنَّ البجة ذُكِروا ضمن أولئك السكان.
لقد كانت الغلبة في العصرين اليوناني والروماني في بلاد البجة لقبائل البليميِّين والتروجلودايت، ولذلك غلبت أسماؤهما في تلك المصادر، ويُلاحظ أنَّ اسم الترجلودايت لم يعد يظهر في المصادر البيزنطيَّة في مصر منذ بداية القرن السادس الميلادي، ممَّا يُشير إلى ظهور فرعٍ جديدٍ من سكان المنطقة حلَّ محلَّهم في القيادة.
وفي واقع الأمر فإنَّه في الوقت الذي كان فيه اسما الترجلودايت والبليميين يتردَّد في المصادر الرومانيَّة، كان البجة يواجهون هجمات مملكة أكسوم؛ فقد شنَّت مملكة أكسوم عددًا من الغارات على المناطق الواقعة على حدودها الشماليَّة على ساحل البحر الأحمر، وفي المناطق الداخليَّة ضدَّ البجة والباريا والنوبا من أجل تأمين طرق تجارتها شمالًا؛ فقد جاء في وثائق الملك الأكسومي كالب أنَّه شنَّ غارةً على البجة وما حولهم في أوَّل القرن السادس الميلادي[6].
ويبدو أنَّ مملكة أكسوم في عصر ملكها كالب -كما يرى سلاسي- قد توسَّعت شمالًا على نهر عطبرة، وضمَّت بعض المناطق شماله، وتوسَّعت شمالًا على ساحل البحر الأحمر، وكان من بين ألقاب الملك الأكسومي كالب "ملك البجة والنوبا"[7]، ويعني هذا أنَّ البجة كانوا قد دخلوا تحت سلطة أكسوم.
وهكذا فقد ظلَّ اسم البجة يتردَّد في تلك المناطق منذ ما قبل القرن الثالث قبل الميلادي وحتى القرن السادس الميلادي، ويُلاحظ أنَّ هذا هو الوقت الذي اختفى فيه اسم الترجلودايت، فهل ثار البجة على أكسوم وتحرَّكوا شمالًا؟ يبدو مقبولًا أن يكون ذلك قد حدث، وفرض البجة سيادتهم على مناطق الترجلودايت ربَّما منذ بداية القرن السادس الميلادي، وإذا قبلنا ذلك فيُمكن تفسير ظهور اسم البجة المبكِّر في المصادر العربيَّة.
وجاء أوَّل ذكرٍ للبجة في المصادر العربيَّة عند الواقدي في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)؛ حيث ذكر أنَّ البيزنطيين استعانوا بملكي البجة والنوبة عندما حاصر المسلمون مدينة البهنسا (Oxernchus) في صعيد مصر، ولبَّى ملك البجة والنوبة دعوة البيزنطيِّين، وأرسلا الجيوش لمصر[8].
وذكر الواقدي: "أنَّ ملك البجة مكسوج أتى ومعه 1300 فيل، عليها قباب الجلد بصفائح الفولاذ في كلِّ قبَّة عشَرة من السودان؛ أي عليها 13000 مقاتل". ووُصِفوا بأنَّهم "طوال القامة، عراة الأجسام، على أكتافهم وأوساطهم جلود النمور وغيرها من الدرق، والحراب، والكرابيج، والقسي، والمقاليع، والأعمدة الحديدية، والطبول، والقرون". واستخدام البجة للأفيال في القتال في ذلك الوقت ربَّما كان فيه إشارة إلى التروجلودويت -أسلاف البجة- الذين كانوا يُصدِّرون الأفيال إلى جيوش البطالمة.
ولم يرد في المصادر العربيَّة الأخرى ما يؤيِّد رواية الواقدي، ولكن ذكر بوركهارت ونقل عنه بدج أنَّه وجد في تاريخ مدينة البهنسا ما يُشير إلى وصول جيشٍ كبيرٍ من البجة والنوباديِّين بقيادة مكسوج ملك البجة وغالك ملك النوباديين لنجدة المسيحيِّين[9]. وقد تناولت المصادر العربيَّة البجة بصورة عامَّة حتى القرن الرابع الهجري (10م)، فورد اسم البجة في القرن السابع الميلادي عندما دخل المسلمون مصر؛ حيث ذكر ابن حوقل أنَّ "عبد الله بن أبي سرح لمـَّا فتح مدينة أسوان وكانت مدينة قديمة أزليَّة كان قد عبر إليها من الحجاز، قهر جميع من كان بالصعيد وبها من فراعنة البجة وغيرهم"[10].
وورد أنَّ أول من صالح البجة هو ابن الحبحاب في آخر القرن (الأوَّل الهجري= السابع الميلادي)، ولم يدم هذا الصلح، وكانت العلاقات متوترة بين الجانبين مما أدى إلى نشوب الحروب بينهما حتى منتصف القرن (الثالث الهجري= التاسع الميلادي)، وقد فصَّلنا الحديث عن تلك الحروب في الفصل السادس من الجزء الثالث من كتاب السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهويَّة.
ولم تُوَضِّح المصادر العربيَّة أسماء قبيلة أو قبائل البجة التي خاضت تلك الحروب، كما لم تتعرَّض لاسم أو أسماء الممالك التي قادتها.
ولكن بعد سنوات قليلة من نهاية تلك الحروب أورد اليعقوبي ت (284هـ=897م) في كتابيه التاريخ والبلدان أوَّل تفاصيل عن ممالك وقبائل البجة، وتهمُّنا هنا المملكة الأولى التي ذكر أنَّها تُجاور المسلمين وأطلق عليها اسم مملكة نقيس، وعاصمتها مدينة هَجَر، ومن سكَّانها الحداربة والزنافج.
[1] مصطفى محمد مسعد: أخبار النوبة، المكتبة السودانية، ص105.
[2] الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/333.
[3] كتاب صورة الأرض، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية، ص59.
[4] تاريخ اليعقوبي، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية، ص21.
[5] William Vincent, the Commerce and Navigation of the Ancients in the Indian Ocean. p 533.
[6] J. Spencer Trimingham, Islam in Ethiopia. P36.
[7] Sergew Hable Sellessie, Ancient abd Medieval Ethiopian History to 1270. p 62-64, 124.
[8] البلاذري: فتوح الشام. 2/227-228، وص243.
[9] John Lewis Burckhardt Travels in Nubia, , f.n. 63 p 528; E. A.
Wallis Budge, The Egyptian Sudan Vol. 2 184.
[10] ابن حوقل: كتاب صورة الأرض، ص55.
التعليقات
إرسال تعليقك