الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
في العام الثامن عشر من الهجرة ابتُلي أهل الشام بطاعونٍ مريعٍ خرج من قرية عمواس غرب القدس، وسرعان ما انتشر حتى أهلك الآلاف المؤلَّفة من البشر.
في العام الثامن عشر من الهجرة ابتُلي أهل الشام بطاعونٍ مريعٍ خرج من قرية عمواس غرب القدس، وسرعان ما انتشر حتى أهلك الآلاف المؤلَّفة من البشر، وكان الجنود المسلمون من أشدِّ الناس تعرُّضًا للإصابة القاتلة، ممَّا هدَّد وجودهم في الشام، وأنذر باحتمال ضياع جهد سنوات الفتح كلِّها.
فَقَدَ المسلمون في هذا الطاعون ما يقرب من خمسة وعشرين ألف إنسان[1]! وهو رقمٌ يفوق كلَّ شهداء المسلمين في كلِّ معارك الفتوح في العراق وفارس والشام! هذا فضلًا عن موت عددٍ من القيادات البارزة التي يتعذَّر توفير مثيلٍ لها.
وصلت الأنباء المفزعة إلى المدينة، ثم وصلت أنباءٌ أخرى أنَّ الوباء قد ارتفع وانتهى، ولم يكن هذا الخبر الأخير صحيحًا، فتحرَّك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعددٍ كبيرٍ من الصحابة إلى الشام لمتابعة الوضع عن كثب، لكنَّه فوجئ عند وصوله للشام بأنَّ الوباء ما زال موجودًا، بل أشدَّ، فكان هذا الموقف.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ب: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ[2] لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ[3]، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ب: فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ[4]، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ رضي الله عنه فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ[5] فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ رضي الله عنه: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه -وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ- فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ رضي الله عنه، ثُمَّ انْصَرَفَ[6].
هكذا عاد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى المدينة، ولم يُدْخِل أحدًا ممَّن كان معه إلى الشام، وهو رأي صِحِّيٌّ حكيم، فضلًا عن كونه اتِّباعًا لسُنَّة رسول الله ﷺ في التعامل مع الأوبئة المـُعْدِية، وبقي جند الشام في الأزمة الكبيرة ينتظرون فرج الله تعالى.
لم يمضِ على المسلمين وقتٌ طويلٌ حتى مات أميرهم أمين الأمَّة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه! كانت صدمةً كبيرةً للمسلمين؛ فأبو عبيدة رضي الله عنه لم يكن مجرد أمير، إنَّما هو من الدعامات الكبرى لدين الإسلام، ومن السَّابقين الأوَّلين، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، ومن أولئك الذين شهدوا كلَّ معارك الرسول ﷺ، وكذلك فتوح الشام من أوَّل لحظاتها، كما أنَّه من المحبوبين الذين ينفذون إلى قلب أيِّ إنسان.
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: «تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه بِفَحْلٍ مِنَ الْأُرْدُنِّ سَنَةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ»[7].
واستخلف أبو عبيدة رضي الله عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه على الصلاة بالناس، وكان في الثامنة والثلاثين فقط من عمره، ولكنَّه كان -كما وَصَفَه رسول الله ﷺ– أعلمَ الأمَّة بالحلال والحرام، وقد حاول معاذ رضي الله عنه أن يرفع من همَّة المسلمين، فأخبرهم أنَّ هؤلاء الموتى في هذا الوباء شهداء، ونبَّه إلى أنَّ حدوثه هو دليلٌ من أدلَّة نبوَّة رسول الله ﷺ؛ لأنَّه تنبَّأ به ووَصَفَه!
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسٍ اسْتَخْلَفَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَاشْتَدَّ الْوَجَعُ فَقَالَ النَّاسُ: يَا مُعَاذُ، ادْعُ اللهَ يَرْفَعْ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ[8]. فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِرِجْزٍ، وَلَكِنَّهُ دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ[9]، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَشَهَادَةٌ يَخْتَصُّ اللهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْكُمْ»[10].
وعن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ[11] يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ[12] الغَنَمِ..»[13]. وفي لفظ ابن ماجه: «يَا عَوْفُ احْفَظْ خِلَالًا سِتًّا، بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ إِحْدَاهُنَّ مَوْتِي». قَالَ: فَوَجَمْتُ عِنْدَهَا وَجْمَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ: «قُلْ: إِحْدَى، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ دَاءٌ يَظْهَرُ فِيكُمْ يَسْتَشْهِدُ اللهُ بِهِ ذَرَارِيَّكُمْ، وَأَنْفُسَكُمْ، وَيُزَكِّي بِهِ أَمْوَالَكُمْ، ثُمَّ تَكُونُ الْأَمْوَالُ فِيكُمْ..»[14]!
ووصل الأمر بمعاذ بن جبل رضي الله عنه في سعيه لتهدئة المسلمين، وليؤكِّد لهم تكريم الله لمن اصطفاه للإصابة بهذا الوباء، أن دعا أن ينال هو وأهله النصيب الأوفى منه! قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «سَتُهَاجِرُونَ إِلَى الشَّامِ فَيُفْتَحُ لَكُمْ، وَيَكُونُ فِيكُمْ دَاءٌ كَالدُّمَّلِ أَوْ كَالْحَرَّةِ، يَأْخُذُ بِمَرَاقِّ[15] الرَّجُلِ، يَسْتَشْهِدُ اللهُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيُزَكِّي بِهِ أَعْمَالَهُمْ». اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَعْطِهِ هُوَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ! فَأَصَابَهُمُ الطَّاعُونُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَطُعِنَ فِي أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمْرَ النَّعَمِ[16]!
هكذا ما لبث معاذ رضي الله عنه أن سقط هو الآخر شهيدًا بالطاعون! عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: «مُعَاذُ بْنُ جَبَلِ بْنِ عَمْرٍو أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسٍ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً»[17].
وبعد موت معاذ بن جبل اختلف الصحابة في طريقة التعامل مع الوباء؛ فكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يرى ضرورة التفرُّق في الأودية والشِّعاب ورءوس الجبال، بينما رأى آخرون -كشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه- الاجتماع وعدم التفرُّق؛ فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قال: لَمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ، خَطَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْسٌ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ رضي الله عنه قَالَ: فَغَضِبَ فَجَاءَ وَهُوَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُعَلِّقٌ نَعْلَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَعَمْرٌو أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ، وَلَكِنَّهُ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَوَفَاةُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ»[18]!
يُبْرِز الموقف السابق مدى التوتُّر الذي أصاب المسلمين في الطاعون، والواقع أنَّ الصواب في الرأي كان بين الصحابيَّين الجليلين عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة؛ فشرحبيل رضي الله عنه محقٌّ في رفض تسمية الطاعون بالرجس، لأنَّ هذا يعني أنَّ الله أصاب به الناس انتقامًا منهم، وهو ليس كذلك، إنَّما هو رحمةٌ وشهادة، ولكن في الوقت ذاته فإنَّ رؤية عمرو بن العاص رضي الله عنه في مسألة التفرُّق وعدم الاجتماع صائبة من الناحية الصحِّيَّة؛ إذ إنَّها ستقود إلى «التَّباعد» الذي يُقَلِّل من العدوى، وبالتالي ينحسر المرض، وهذه الرؤية فسَّرها عمرو بن العاص رضي الله عنه في روايةٍ أخرى، وردَّ عليه فيها شرحبيل رضي الله عنه أيضًا! فعَنْ أَبِي مُنِيبٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ فِي الطَّاعُونِ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا رِجْسٌ مِثْلُ السَّيْلِ، مَنْ يَنْكُبْهُ[19] أَخْطَأَهُ، وَمِثْلُ النَّارِ مَنْ يَنْكُبْهَا أَخْطَأَتْهُ، وَمَنْ أَقَامَ أَحْرَقَتْهُ وَآذَتْهُ. فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ رضي الله عنه: «إِنَّ هَذَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ»[20]. فالذي يقصده عمرو بن العاص رضي الله عنه في الرواية الأخيرة هو التعامل مع الوباء كما نتعامل مع السَّيل أو النَّار، بالابتعاد عنها لا بالوقوف في وجهها.
لم تهدأ الأوضاع، فقد وضع عمرُ رضي الله عنه يزيدَ بن أبي سفيان ب على قيادة الشام، لكنَّه ما لبث أن سقط شهيدًا هو الآخر للطاعون، وبعده بقليلٍ استُشهد شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه كذلك! هكذا صار الأمر عسيرًا على عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في المدينة لفقده جُلَّ القيادات الكبرى في الشام، وبعد تدبُّرٍ استقرَّ رأيه رضي الله عنه على تولية الشام كلِّه ل معاوية بن أبي سفيان، وهذه من أعظم مناقب معاوية رضي الله عنه؛ إذ وَثَقَ في جدارته عمرُ رضي الله عنه إلى هذه الدرجة.
وممَّن استُشهد في الطاعون أيضًا الفضلُ بن العبَّاس ابن عمِّ الرسول ﷺ، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام رضي الله عنه، وهو أخو أبو جهل، وكان الحارث رضي الله عنه قد خرج إلى الشام في سبعين من أهله، فمات هو ومعظم أهله ولم يبقَ منهم إلَّا أربعةٌ فقط! ومات في الطاعون أيضًا الكثيرُ من أبناء خالد بن الوليد رضي الله عنه! وكذلك أبو مالك الأشعري رضي الله عنه، وقيل بلال بن رباح رضي الله عنه مؤذِّن الرسول ﷺ!
ويبدو أنَّ المسلمين بعد وفاة شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه أخذوا برأي عمرو بن العاص رضي الله عنه، فتباعدوا في مناطق واسعة، فانحسر المرض بفضل الله، ويؤيِّد ذلك روايةٌ في مسند أحمد سندها ضعيفٌ لكنَّ معناها صحيحٌ والله أعلم، وفيها أنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه خطب في الناس فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فَتَجَبَّلُوا[21] مِنْهُ فِي الْجِبَالِ». قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو وَاثِلَةَ الْهُذَلِيُّ رضي الله عنه: «كَذَبْتَ وَاللَّهِ، لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا». قَالَ: «وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ»، «وَايْمُ اللهِ لَا نُقِيمُ عَلَيْهِ». ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَفَعَهُ اللهُ عَنْهُمْ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﷺ مِنْ رَأْيِ عَمْرٍو رضي الله عنه فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ[22]!
وفي كلِّ الأحوال، وبعد شهورٍ من البلاء، انحسر المرض، ولكن لم يتبقَّ في الشام بعد هذه الكارثة سوى القليل من الجنود المسلمين يتراوحون بين أربعة وستَّة آلافٍ فقط، وكانت أزمةٌ كبيرةٌ تطلَّبت ذهاب عمر رضي الله عنه من جديدٍ إلى الشام، ولم يذهب هذه المرَّة بجمعٍ محدودٍ من الصحابة؛ إنَّما جمع مددًا عسكريًّا ليُعيد الأمور إلى نصابها في الشام، كما أنَّ ذهاب عمر رضي الله عنه إلى الشام كان لأمرٍ آخر غريب؛ وهو تقسيم المواريث لموتى طاعون عمواس! فقد خَلَقَ هذا الموت الجماعي بعض التشابكات المعقَّدة التي لم يستطع القضاة في الشام أن يحلُّوها دون عمر رضي الله عنه! قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «ضَاعَتْ مَوَارِيثُ النَّاسِ بِالشَّامِ، أَبْدَأُ بِهَا فَأُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ، وَأُقِيمُ لَهُمْ مَا فِي نَفْسِي»[23]!
الغريب حقًّا هو أنَّ الدولة الرومانيَّة لم تحاول أن تستعيد الشام أعقاب هذه الكارثة التي حلَّت بالمسلمين، ويبدو أنها أُنْهِكت في الحرب جدًّا مع الجيش الإسلامي في خلال السنوات الستِّ الماضية، ولم يعد لديها القدرة على إعادة محاولات استرداد الشام، ومِنْ ثَمَّ لم يتغيَّر الموقف عسكريًّا قط بعد الطاعون المرعب، وهذا في الواقع مِن حِفْظِ الله لأمَّة الإسلام، لأنَّه -مهما كانت التبريرات العسكريَّة أو السياسيَّة لنسيان الرومان أمر الشام- عكس المنطق المعقول الذي يتعامل به البشر، فلله الأمر من قبل ومن بعد!
[1] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي (شركة الأعلمي للمطبوعات)، 2/42.
[2] سرغ: مكان بالشام على مقربة من الجابية جنوب دمشق.
[3] أمراء الأجناد آنذاك هم أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، رضي الله عنهم.
[4] يحتمل أنَّ المقصود بهم أولئك الذين هاجروا في عام الفتح قبل فتح مكة، أو مسلمة الفتح، أو الذين هاجروا للمدينة بعد الفتح لغرض العلم، أو للجهاد، وليس للفرار بالدين، لكون هذه الهجرة الأخيرة قد توقَّفت بعد فتح مكة. انظر ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، 10/185.
[5] مصبح على ظهر؛ أي مسافرٌ عائدٌ إلى المدينة.
[6] البخاري: كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون (5397)، ومسلم: كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219) واللفظ له.
[7] الحاكم: كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، (5150).
[8] الرِّجْزُ: الْعَذَابُ وَالإِثْمُ وَالذَّنْبُ، والْأَمْرُ الشَّديدُ يَنْزِلُ بِالنَّاسِ.
[9] وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ يُرِيدُ قَوْلَهُ ﷺ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ». الخطابي: غريب الحديث، 2/316، وقال القاضي عياض: والصحيح من الرواية أنَّه -عليه السلام- أخبره جبريل أنَّ فناء أمَّته بطعنٍ أو طاعون. فقال: «اللهمَّ فبالطاعون»، وهذا هو الذي يوافق حديثه الآخر: «أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ». وإن كان مُنِع من إحداهما كما جاء في الحديث. عياض القاضي: إكمال المعلم بفوائد مسلم، 7/133.
[10] الطبراني: المعجم الكبير، 20/171 (17121).
[11] الـمُوْتَانُ: الْمَوْتُ الْكَثِيرُ الْوُقُوعِ.
[12] قُعَاصُ الْغَنَمِ: دَاءٌ يَأْخُذُ الدَّوَابَّ فَيَسِيلُ مِنْ أُنُوفِهَا شَيْءٌ فَتَمُوتُ فَجْأَةً.
[13] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب ما يحذر من الغدر، (3005)، واللفظ له، وأحمد (24031).
[14] ابن ماجه: كتاب الفتن، باب أشراط الساعة (4042).
[15] المراقُّ: ما سفل من البطن فما تحته من المواضع التي ترق جلودها.
[16] أحمد (22141)، وقال الأرناءوط: المرفوع منه صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه إسماعيل بن عبيد الله لم يدرك معاذًا. وقال الهيثمي: رواه أحمد وإسماعيل بن عبيد الله لم يدرك معاذًا. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 2/311.
[17] الحاكم: كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل رضي الله عنه، (5172).
[18] أحمد (17788)، وقال الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد ضعيف. والطبراني: المعجم الكبير، 7/305، (7225).
[19] ينكب: يعدل عنه ويتنحَّى عن طريقه.
[20] أحمد (17791)، وقال الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد قوي.
[21] تَجَبَّلُوا؛ أي: ادخلوا في الجبال لكي تنعزلوا عن بعضكم البعض.
[22] أحمد (1697) وقال الأرناءوط: إسناده ضعيف. وأرى أنَّ معناه صحيح، ويتوافق مع الملابسات التاريخيَّة؛ لأنَّنا لم نجد لومًا من عمر رضي الله عنه على هذا الأمر، ولو كرهه لذكر ذلك دون جدال.
[23] الطبري: تاريخ الرسل والملوك (دار التراث)، 4/59، وابن عساكر: تاريخ دمشق، 44/6.
التعليقات
إرسال تعليقك