ملخص المقال
في ذكرى وفاته [31/8] أحببنا أن نلقي الضوء على أحد أعلام المسلمين، والإمام الأكبر التاسع والثلاثين للأزهر الشريف، #الشيخ_محمد_الفحَّام، وهو أحد شيوخ العربية
نشأة الشيخ الفحام ونبوغه العلمي:
كان ميلاد الشيخ الجليل محمد الفحَّام في 18 من سبتمبر سنة 1894م، الموافق 18 من ربيع الأول سنة 1321هـ، في مدينة الإسكندرية العروس الساحليَّة الفاتنة، وجذور نسبه تنتمي إلى «بني مر» إحدى قرى محافظة أسيوط، وما زال يوجد بها إلى الآن معظم أقربائه، والمعروفون باسم «عائلة الدك».
وقد سار على نهج طلاب عصره في تلقِّي العلوم الأساسيَّة برعاية وتشجيع كبيرين من أسرته؛ فبدأ بحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني عام 1903م، وحصل منه على الشهادتين الابتدائية والثانوية، وقد كانت إدارة هذا المعهد حينئذٍ سبَّاقةً في الأخذ بأسباب الإصلاح والتطوُّر، كما أنَّه كان يضمُّ نخبةً من العلماء المتميزين..
وكانت من المواقف اللطيفة في حياته الدراسيَّة والتي تدل على شدة نبوغه وتفوقه الواضح على أقرانه، أنَّ شيخ الأزهر سليم البشري زار معهد الاسكندرية الديني ومعه لفيف من كبار العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ معهد الاسكندرية الديني في ذلك الحين، الذي أصبح بعدها شيخًا للأزهر.. وكان وقت امتحان الطلبة، فاهتزَّت هيئة لجان الامتحان الشفوي وكان الشيخ الفحَّام حينئذٍ طالبًا بالسَّنة الثانية الابتدائية، ودخل عليهم الإمام الشيخ البشري، وسأل الطالب في باب «نائب الفاعل»، فقال الطالب: إنَّ بعض النحاة يُسمِّيه «باب المفعول الذي لم يُسمَّ فاعلُه»، فقال الإمام البشري: أي العناوين تُفضِّل؟ فقال الطالب: أُفضِّل عنوان "نائب الفاعل" لسببين: لأنَّه أوجز عبارةً، ولأنَّ نائب الفاعل لا يكون دائمًا هو المفعول به؛ فقد يكون ظرفًا مثل قولك: سهرت الليلة، أو مصدرًا مثل: كتبت كتابةً حسنة، أو جارًا ومجرورًا مثل: نظر في الأمر.. وكلَّما أفاض الإمام في الأسئلة أفاض الطالب في الإجابة، فقال الإمام: «هذا طالب بالسنة الثانية الابتدائية أم بالثانوية؟!»، ثم قرأ له الفاتحة، ودعا له بالخير والبركة وتنبَّأ له.. فصدق حدسه بتوفيق الله سبحانه وكان من الولد الصغير ما جعله إمامًا ونبراسًا!
ثم التحق بالجامع الأزهر، ونال الشهادة العالميَّة عام 1922م.. وقد اتَّجه الشيخ الفحام فور تخرجه إلى العمل بالتجارة؛ لعدم رغبته آنذاك في التقيُّد الوظيفي كما كان يرى، ونجح فيها نجاحًا باهرًا، ولكنَّ مواهبه العلميَّة من جهة ونصائح المخلصين من أهله وأصدقائه من جهةٍ أخرى حملته على العودة إلى طلب العلم الذي هو أشد ما يبرع فيه، وهذا من توفيق الله له وللأمة.
فتقدَّم لمسابقةٍ أجراها الأزهر لاختيار معلمين بالمعاهد الدينيَّة، وفاز فيها وعُيِّن مدرِّسًا للعلوم الرياضيَّة بالإضافة إلى العلوم الدينيَّة بالمعهد الديني في الإسكندرية عام ١٩٢٦م، ثم نُقل إلى كليَّة الشريعة عام ١٩٣٥م لتدريس المنطق وعلم المعاني الذي تخصَّص وأبدع فيهما بالإضافة إلى فروع اللغة كلها.
وفي عام 1936م اختير ضمن بعثة الأزهر للحصول على الدكتوراه في الآداب من باريس، وكان الاختيار مقصورًا على صفوة المتخرجين من الأزهر، وقد قضى في باريس هو وأسرته عشر سنوات، لاقى فيها من شدائد الكثير في ظلمات الحرب العالمية الثانية، ولكنه صبر واستعان بالله على تجاوزها فكانت الثمرة عظيمة والفائدة جليلة؛ فقد حصل على الليسانس من جامعة «السوربون»، وعلى عدَّة دبلومات عليا، وهي: دبلوم في اللغة الفرنسية من جامعة بوردو عام ١٩٣٨م، ودبلوم في اللغة العربية الفصحى من مدرسة اللغات الشرقيَّة بباريس عام ١٩٤١م، ثم دبلوم في اللغة العربية الشرقية واللهجات السوريَّة واللبنانيَّة في العام نفسه.. وقد كان رحمه الله مع انشغاله الشديد وطلبه الحثيث للعلم لا يألُ جهده في الجانب الدَّعوي والمجتمعي؛ فكان له الفضل -بعد الله سبحانه وتعالى- في إقامة أوَّل مسجد في مدينة بوردو الفرنسيَّة، وذلك في يوليو عام ١٩٤٦م.
ثم حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الشرف الممتازة من جامعة باريس سنة 1946م، عن رسالته: «معجم عربي فرنسي لاصطلاحات النحويِّين والصرفيِّين العرب»، وكان هذا المعجم مناط تقدير الأساتذة والمستشرقين وثنائهم، حتى إنَّ أحدهم قال له: «لست أظنُّ أنَّ عالمًا زار فرنسا أكثر إلمامًا باللغة العربيَّة منك».
مكانته العلمية ومشيخة الأزهر:
عاد الشيخ إلى مصر فوجد شهرته العلميَّة قد سبقته، فنهض بتدريس الأدب المقارن لطلبة كليَّة اللغة العربيَّة، ودرَّس النحو بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية.
وقد تدرَّج الشيخ الفحَّام في وظائف التدريس، إلى أن أصبح عميدًا لكليَّة اللغة العربيَّة، عام 1959م، إلى أن أُحيل إلى التقاعد، وحينئذٍ لم يركن إلى ما يركن إليه بعض المتقاعدين، بل انكبَّ على البحث والدرس في مكتبته الخاصة نحو عشر سنوات..
وفي 5 من رجب سنة 1389هـ، الموافق 16 من سبتمبر سنة 1969م، صدر قرارًا بتعيينه شيخًا للأزهر الشريف، خلفًا للشيخ حسن المأمون، فأصبح الدكتور الفحَّام -رحمه الله- الشيخ التاسع والثلاثون في ترتيب أئمَّة الجامع الأزهر الشريف، وكان ذلك بعد نكسة 67، وأثناء حرب الاستنزاف، فعمل على تعبئة الجبهة الداخليَّة، وسعى إلى وحدة العالم الإسلامي، وزار أغلب البلاد العربيَّة والكثير من البلاد الإسلاميَّة، وهو أوَّل شيخ من شيوخ الأزهر يزور إيران من أجل التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة.
ثم انتُخب عضوًا بمجمع اللغة العربيَّة، واحتفل أعضاء المجمع الموقرون باستقباله في 12 من صفر سنة 1392هـ، الموافق 27 من مارس سنة 1972م. وكانت له خطبة عصماء في هذا الحفل المهيب، نقتطف منها قوله: «إنَّ اللغة العربية دخلت في صِراع مرير مع لغاتٍ أخرى كثيرة، فكُتب لها النصر دائمًا بفضل القُرآن الكريم، والسُّنَّة النبويَّة، والحضارة الإسلاميَّة، وظلَّت اللغة قويَّة فتيَّة على مرِّ العصور، وإنَّ لها قدرًا ابتُلِيت به هي وأهلها بأزماتٍ استعماريَّة قاتلة: حين تسلَّط التتار على العراق، والصليبيُّون على الشام والفرنجة على الأندلس، والأوروبيون على الوطن العربي، ولكنَّها لم تستكنَّ، وقاومت مقاومةً شديدة، فلم تذبل أو تندثر كما حدث للغات السامية واليونانية القديمة.. » إلخ، ثم تحدَّث عن العامِّيَّة وهاجم أنصارها بالبرهان والمنطق.
وقد اشتهر الشيخ -رحمه الله- بعشقه الكبير للغة العربية والتراث العربي والإسلامي عامة، فطالما سعى إلى اقتناء العديد من مؤلفات اللغة والتراث الإسلامي كلِّه، حتى المؤلفات الأجنبيَّة من شتَّى اللغات والثقافات.. فكان صاحب واحدةٍ من أكبر المكتبات الشخصيَّة لعالمٍ من علماء عصره.
وقد بدأ شغفه باقتناء الكتب العلمية واطلاعه الواسع منذ طفولته؛ حيث كان أساتذته في المعهد الديني يقربونه لنبوغه وتميزه عن أقرانه وحبه للعلم والاطلاع، فكانوا يهدون إليه الكتب التراثية والمؤلَّفات العلمية، وكان يعتزُّ بهذه الكتب كلَّ الاعتزاز، ويحرص على صيانتها وحِفظها والانتفاع بها، وكان يُطلِعُ بعض أصدقائه على هذه المصنَّفات التي أُهدِيت له من أساتذته، ومنهم أستاذه الشيخ عبد الهادي الدرعمي، وهو بالسنة الأولى الابتدائيَّة، وعليها إهداء بخطه، وقد ذكر الشيخ الفحَّام أنَّه صحب معه هذه الكتب إلى باريس.
وكان الشيخ الفحَّام مثالًا للرزانة والحكمة والوقار مدَّة مشيخته للأزهر الشريف وطوال حياته قاطبةً، وشهد أحداثًا وطنيَّة كان رأيه فيها حكيمًا يرجع على البلاد والعباد بالأمان.
واستمر في مشيخة الأزهر إلى شهر مارس عام 1973م؛ حيث ألحَّ في طلب إعفائه من منصبه لظروفه الصحيَّة؛ فاستجيب له، وخلفه في مشيخة الأزهر الشيخ الإمام عبد الحليم محمود، وعكف هو في بيته بالإسكندرية ملازمًا للمصحف الشريف، مواظبًا على العبادة وذكر الله.
رحلاته العلمية:
ارتبط الشيخ الفحام ارتباطًا فكريًّا وعمليًّا؛ فقام برحلات متعدِّدة إلى كثيرٍ من الأقطار؛ فكان ممثلًا للأزهر في إحدى المؤتمرات الثقافية في لبنان سنة 1947م، وسافر إلى نيجيريا موفدًا من الأزهر لدراسة أحوال المسلمين بها واقتراح حلول لمشكلاتهم، وقضى هناك خمسة أشهر، ولم يُثْنِه عن السفر ما زعمه له بعض المبشرين المسيحيِّين الذين زاروا نيجيريا من قبل بأنَّها مقبرة الرجل الأبيض، بل خرج من داره يتلو قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]، وكانت رحلته آثارها طيبة مباركة؛ إذ اختار بعض أبناء نيجيريا ليتعلموا بالأزهر، وتخيَّر طائفةً من علماء الأزهر ليُدرِّسوا هناك، ولم تلبث نيجيريا أن حفلت بعدَّة مدارس وكثيرٍ من المعلِّمين والقضاة العرب.
ثم سافر إلى باكستان ثلاث مرَّات، اتَّصل فيها بكثيرٍ من كبار علمائها، وزار كثيرًا من مدارسها ومعاهدها ومكتباتها، ثم اتَّجه إلى موريتانيا، وأسهم في إنشاء مكتبةٍ إسلاميَّةٍ كبيرةٍ بها، وشارك في مناقشاتٍ إسلاميَّة هامَّة، منحوه بعدها وثيقة مواطن موريتاني، كذلك سافر إلى إندونيسيا ثلاث مرَّاتٍ ممثلًا للأزهر، وسافر إلى إسبانيا والسودان والجزائر وإيران وليبيا.
وقد سافر الشيخ الفحَّام إلى الاتحاد السوفيتي عام ١٩٧٠م ملبيًا دعوة علماء المسلمين السوفييت ورئيسهم بابا خانوف، فقام بزيارة: "أوزباكستان، وطشقند، وطاجيكستان، وسمرقند، وموسكو، وليننجراد"، وعقد أوثق الصلات مع المسلمين فيها.. في زيارةٍ هي الأولى من نوعها لمسئول ديني، وكان قد رفض شرط الحكومة الروسيَّة بزيارة مقبرة لينين مؤسِّس الدولة الشيوعيَّة، وهدَّد بإلغاء الزيارة فتراجعت عن مطلبها؛ حفاظًا على العلاقات التي كانت ترغب في الاحتفاظ بها مع العالم الإسلامي ومصر خاصةً.
دور الشيخ الفحام السياسي وموقفه من الدستور المصري:
عندما وُضِع مشروع الدستور المصري الجديد في عام ١٩٧١م، أصدر الإمام الأكبر محمد الفحام بيانًا طالب فيه بأن تكون الشريعة الإسلاميَّة هي المصدر الرئيس للتشريع، وبالفعل أصدر مجلس الشعب قراره بتنفيذ اقتراح شيخ الأزهر الإمام الفحَّام رحمه الله.
ومن مواقفه البارزة الشهيرة أيضًا تقدُّمه بطلب إلى الرئيس السادات في عام ١٩٧٣م لإعفائه من منصبه شيخًا للأزهر؛ لعدم رضائه عن تبعيَّة الأزهر الشريف -حينها- لوزارة الأوقاف، بالإضافة إلى تدهور حالته الصحيَّة، وقد استجاب الرئيس السادات لطلبه، ثم منحة وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، وهو أرقى وسام مصري؛ تقديرًا لما قدَّمه للإسلام ومصر وللأزهر الشريف.
بالإضافة إلى موقفه من فتنة تبشيريَّة كانت بداية اشتعالها في عهد الإمام الشيخ "حسن مأمون"، وأُخمدت نارها والحمد لله بفضل جهود الإمام الفحَّام، وسعيه الحثيث لإرساء مفاهيم الوحدة والرباط بين المسلمين والنصارى خاصة في مصر، وترسيخ أسس التسامح الديني التي يكون نتاجها الاستقرار والسلام.
مؤلفات الشيخ الفحام:
وقد خلَّف الشيخ الفحام -رحمه الله- مؤلفات قيِّمة، منها: «مذكرات في الأدب المقارن»، تُدرَّس لطلبة كلية اللغة العربية، و«مذكرات في النحو» لطلبة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وكتاب عن سيبويه وآرائه النحويَّة، وكتاب «هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم»، وكتاب «المسلمون واسترداد بيت المقدس»، وكتاب «أثر الإسلام في توجيه القادة الإداريِّين»..
وتفوَّق الشيخ في دراسة علم المنطق بجانب تميزه الكبير في علوم اللغة، فألَّف رسالةً سمَّاها «رسالة في الموجهات» وهو طالب بالسنة الثانية الثانويَّة، جمع فيها بين العلم وسهولة عرضه، فأُعجب زملاؤه بما كتب، حتى إنَّ طلاب شهادة العالميَّة المؤقَّتة نهلوا من معين رسالته، كما تفوَّق في دراسة الجغرافيا كذلك.
وللشيخ الفحام بحوث نشر بعضها في مجلة مجمع اللغة العربية، منها:
1- «الشيخ خالد الأزهري»، وذكر فيه المصادر الاثني عشر التي تحدثت عنه، وعرض أسماء أساتذته، وأسماء مؤلفاته الستة عشر التي وصلت إلينا، ومنها المقدمة الأزهرية، وشرحها، وإعراب الأجوبة وشرحها.
2- بحث آخر موضوعه «سيبويه»، بدأه ببيان معنى كلمة سيبويه، فنقل ما ذكره القدماء، ثم نقل ما ذكره المستشرق كرنكو، ولم يعتمد على ما ذكره المستشرق، بل سأل علماء اللغة الفارسية، وانتهى إلى ترجيح أن كلمة سيبويه معناها «تفاحة صغيرة» لا «رائحة التفاح»، كما هو ذائع شائع، وبعد هذا التمهيد الشائق ذكر عدة من العلماء اسم كل منهم سيبويه، هم: سيبويه الأصفهاني، وسيبويه المغربي، وسيبويه المصري، ثم انتقل إلى شيخهم سيبويه البصري إمام علماء البصرة، وشيخ النحاة، وأول من لقب بهذا اللقب، فتحدث عن مولده ومكانه وتلاميذه والمناظرة التي كانت بينه وبين الكسائي.
وفاة الشيخ الفحام رحمه الله:
وقد لقي الإمام الجليل ربَّه يوم الأحد 20 من شوال سنة 1400هـ، الموافق 31 من أغسطس سنة 1980م، في منزله بالإسكندرية، ودُفن في مدافن العائلة.
وقد أطلقت كلية اللغة العربية بالقاهرة اسمه على إحدى قاعاتها الكبرى تخليدًا لذكراه. فرحمه الله رحمة واسعة وعفا عنه، وجزاه عن خدمته الإسلام والعربية خيرًا جزيلًا.
المصادر:
1- محمد عبد المنعم خفاجي، وعلي علي صبح: الأزهر في ألف عام، ط3، 1432ه=2012م.
2- أسامة الأزهري: جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين، ط1، 1440ه= 2019م.
التعليقات
إرسال تعليقك