الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مراكش مدينة تاريخية عظيمة من مدن المغرب، والمدن التاريخية في المغرب كثيرة للغاية؛ مثل فاس والرباط والدار البيضاء وطنجة وأكادير ومكناس وغيرها.
نافذة اليوم نفتحها على مدينة تاريخية عظيمة من مدن المغرب وهي مدينة مراكش، والمدن التاريخية في المغرب كثيرة للغاية؛ مثل فاس، والرباط، والدار البيضاء، وطنجة، وأكادير، ومكناس، ووجدة، وغيرها.
وضع أساس مدينة مراكش أبو بكر بن عمر اللمتوني عام 454ه= 1062م، وأتمها يوسف بن تاشفين وجعلها عاصمة المرابطين، وقد عمَّرها المرابطون وجعلوها حاضرة المغرب ونقلوا إليها العمران الأندلسي وأضافوا عليه، كما بنى علي بن يوسف بن تاشفين مباني المدينة بالحجر الرملي الأحمر فعُرِفَت بالمدينة الحمراء، ونمت مُراكش بسرعة، وترسَّخت مكانتها كمركز ثقافي وديني وتجاري، اتخذها الموحدون عاصمةً لهم أيضًا. وأنجزوا بها عدة معالم تاريخية تجاوزتها فاس في عهد المرينيين، إلى أن استعادت تفوقها في ظل السعديين، في عهد العلويين انتقلت العاصمة إلى مكناس، ففاس، ثم أخيرًا الرباط منذ 1912، ومع ذلك ظلَّت مراكش محتفظة برونقها ومكانتها إلى الآن.
واللقطة الحضارية التي نطَّلع عليها اليوم هي مستشفى كبير وحضاري، وهو أول مستشفى في تاريخ المغرب، ومن العجيب أن يكون أول مستشفى على هذه الصورة، ويبدو أن مؤسِّسه قد نقل خبرة الأندلس كلها إليه فخرج هكذا، ومؤسِّس المستشفى هو السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، وقد حكم من 580-595هـ/1184-1199م، وكان ذكيًّا شجاعًا مقدامًا محبًّا للعلوم كثير الجهاد، هو أقوى أمير في تاريخ الموحدين، وقد عُدَّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذَّهبي، وبلغت الدولة في عهده أكبر اتِّساع لها، وكان كثير الصدقة، وواسع الجود، وعلى الرغم من اهتمامه بالجهاد، وحروبه ضد الإسبان في الأندلس، وجهوده في توحيد شمال وغرب إفريقيا، إلا أن إسهاماته الحضارية ملموسة، ومنها المستشفى الذي بين أيدينا.
الطبُّ كان موجودًا بالمغرب قبل هذا التاريخ، ولكن اعتاد أهل المغرب على زيارة الأطباء للمرضى في بيوتهم، وكانت الإضافة الحضارية الكبرى في عهد يعقوب الموحدي هي تأسيس مستشفى متكامل على غير نسق سابق بالمنطقة برمَّتها، والمكان بين مسجد الكتبية وجامع المنصور الموحدي (القصبة) والمسافة بينهما 1.5 كم.
أفضل وصف للمستشفى نحصل عليه من كتاب "المعجِب في تلخيص أخبار المغرب"، تأليف المؤرخ المغربي عبد الواحد التميمي المراكشي، لأنه عاش في عصر الموحدين، ويصف "البيمارستان" بقوله: "ما أظن أن في الدنيا مثلَه"؛ وهذا الكلام لا يقوله مبالغة، فقد تعلَّم بفاس والأندلس، ورحل إلى مصر سنة 613هـ، وحج سنة 620، وتجوّل في بعض بلدان المشرق وأملى كتابه «المعجِب في تلخيص أخبار المغرب» إجابة لطلب وزير من خاصة الخليفة العباسي الناصر لدين الله، سنة 621ه، تَخيّر ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد.
عمل في هذا "البيمارستان" عددٌ من الأطباء الأكفاء، من بينهم أبو إسحاق إبراهيم الداني، طبيب المنصور الخاص، ومن المحتمل أن يكون ابن رشد الحفيد ممن عمل فيه أيضًا، وتميَّز المستشفى بكثرة التخصُّصات حتى شمل مركزًا لمرضى الأمراض العقلية، وجلب إليه الأدوية، وأقام فيه الصيادلة لصناعة الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمرضى ثيابَ ليل ونهار للنوم، وثياب شتاء وصيف، وحرص على البعد الجمالي ليكون مريحًا للمرضى:
أيضًا أتقن البناؤون فيه من النُّقوش البديعة والزخارف المحكمة، وأمر أن يُغْرَس فيه من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع بِرك في وسطه، وفيه أنواع من "الفُرُش النفيسة كالصُّوف والكَتّان والحرير وغير ذلك، حتى زاد على الوصف، وأتى فوق النَّعْت، وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم.
من أروع مظاهر الحضارة في المستشفى إذا نَقِهَ المريض، وكان فقيرًا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريْثَما يَسْتَقِلُّ، ولم يَقْصِرْه على الفقراء دون الأغنياء، بل كان كل من مرض بمَرّاكُش من غريب يحمل إليه ويعالج، وكان الأمير يعقوب الموحدي في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القَوَمة عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج؛ لم يزل مستمرًّا على هذا إلى أن مات رحمه الله[1].
[1] لمشاهدة الحلق على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك