ملخص المقال
يُعد الإمام الليث بن سعد أحد أساطين الفقه الإسلامي، بل أحد رجال الإسلام المعدودين بشكل عام.
الليث بن سعد: هو شَيْخُ الإِسْلاَمِ الإِمَامُ الحَافِظُ العَالِمُ أَبُو الحَارِثِ اللَّيْثُ بنُ سَعْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الفَهْمِيُّ القَلْقَشَنْدَي، وُلد في عام 93 أو 94هـ، وتوفي في سنة 175هـ، وهو فقيه ومحدث وإمام أهل مصر في زمانه، وصاحب أحد المذاهب الإسلامية المندثرة، وهو فارسي أسرته من أصبهان إيران، وقد ولد هو في قرية قلقشندة، وهي من قرى طوخ في القليوبية، وكان أجداده موالي لخالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي[1]، ولذا يكنَّى الليث بالفهمي، وبني فهم من قيس عيلان، ولذا يعرف الليث أحيانًا بالقيسي.
كان الليث بن سعد موازيًا للإمام مالك في المدينة، بل رفعه البعض فوقه. قال الشافعي: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ». بينما رفع يحيى بن معين مالكًا فوقه.
تعلَّم الليث بن سعد في مصر على أيدي التابعين وأتباعهم، وسمع أيضًا من بعض كبار التابعين خارجها: «قال اللَّيْثَ: سَمِعْتُ بِمَكَّةَ في رحلة الحج سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَمائَةٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِيْنَ سَنَةً. وسافر بغداد، وأيضًا دمشق.
يقول شرحبيل بن جميل: أدركت الناس أيام هشام الخليفة، وكان الليث بن سعد حدثَ السن، وكان بمصر عبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة، وإنهم يعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه عن حداثة سنه.
في المجمل أدرك الليث بن سعد أكثر من خمسين تابعيًا، ومائة وخمسين من تابعي التابعين، ومن أشهر التابعين الذين سمع منهم الزهري، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد بن أبي سعيد المقبري وأبو الزبير المكي ويزيد بن أبي حبيب وهشام بن عروة وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري.
قال ابن حجر العسقلاني: "إن علم التابعين في مصر تناهى إلى الليث بن سعد"، وقد روى عن الليث الكثير؛ منهم عبد الله بن لهيعة وهشيم بن بشير أستاذ أحمد بن حنبل الأول، وعبد الله بن وهب تلميذ مالك، وعبد الله بن المبارك وأشهب بن عبد العزيز تلميذ مالك أيضًا، وعبد الله بن عبد الحكم رأس المالكية في مصر، ويحيى بن يحيى الليثي، وقتيبة بن سعيد.
كان يحيى بن بكير، وهو من رواة الأحاديث الثقات، ومن تلامذة الليث، وهو جاره، وهو أثبت الناس في الليث، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد. يقول في حقِّه: «ما رأيت أحدا أكمل من الليث»، وقال أيضًا: «كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة».
كان الليث من رواة الحديث الكبار، وبعض رواياته تعتبر من أعلى الروايات سندًا مثل: الليث عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة بنت أبي بكر، والليث عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عباس، والليث عن نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر، والليث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
يقول أحمد: ليس في المصريين أصح حديثًا من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث[2] يقاربه، ومن الناحية الفقهية كان الليث يعتمد في فتواه على الأثر من كتاب وسُنَّة وإجماع، وبذا فهو من مدرسة الحديث لا الرأي، وكان يخالف مالك في قضايا كثيرة، تبعًا لاختلاف أصول الفقه، لأن عمل أهل المدينة مقدَّم عند مالك، بينما لا يعتبره الليث من الأصول، ويعتمد على فتاوى الصحابة في الأمصار، وبينه ومالك رسائل في هذا الشأن.
وقد كان الليث يقسِّم مجلسه اليومي إلى أربعة أقسام: قسم لاستشارات الوالي، وقسم لأهل الحديث، وقسم للمسائل الفقهية، وقسم لعموم الناس في أسئلتهم الحياتية، وكان كثيرًا منها لطلب المال منه فقد كان اليث غنيًّا يملك الأراضي الكثيرة، ومنها ضيعة كاملة قرب رشيد، ومع ذلك كان زاهدًا يأكل الخبز والزيت، ويطعم الفقراء وعموم الناس الموائد الفاخرة، والحلويات، وكان واسع الكرم، حتى كان ينفق دخل السنة كله في وجوه الخير، وكان يشتري الأراضي من بيت المال ويوقفها لأعمال البر، وأوقافه هي أحد الأساسات الكبرى لديوان الأوقاف بمصر، وكان يصل مالك بأموال كثيرة.
كانت علاقة اليث بالحكام طيبة، ويشبه في ذلك مالك، وكانت له مكانة كبيرة جعلت الولاة والقضاة يرجعون إِلى رأيه، ومشُورته، وقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية وتولَّى للدولة، ويشبه في ذلك الشافعي، وهذا بعكس أبي حنيفة وأحمد.
تولّى اليث قضاء مصر في ولاية حوثرة بن سهيل في خلافة مروان بن محمد، وتولَّى للعباسيين ديوان العطاء في زمن صالح بن علي العباسي، وتولى الجزيرة في زمن أبي جعفر المنصور، وكذا الديوان في زمن المهدي، ومع ذلك استعفى من ولاية مصر كلها أيام أبي جعفر المنصور بحجَّة أنه من الموالي، وقد لا يناسب ذلك مقام الإمارة، ومع ذلك فقد تلطَّف معه المنصور بعكس ما حدث مع أبي حنيفة، وقد روى شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه قوله: «قال لي المنصور حين أردت أن أودعه: قد سرني ما رأيت من سداد عقلك، فأبقى الله في الرعية أمثالك»، وقد يكون هذا لشعوره بأن الليث يرفض لسبب طبيعي لا اعتراضًا على حكم المنصور كما كان يقول أبو حنيفة، وقال يعقوب بن داود وزير الخليفة العباسي المهدي إن المهدي أوصاه حين قدم الليث العراق بأن يلزمه، قائلاً: «ثَبَتَ عندي أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه».
لم ينتشر علم الليث بن سعد لأمرين: الأمر الأول لم يكن له تلاميذ معيَّنون يهتمون بنقل ميراثه العلمي، وهذا عكس ما رأيناه مع الفقهاء الأربعة الآخرين، وبخاصة الثلاثة الأوائل منهم. وقد اكتشف ذلك الشافعي بعد أقل من 30 سنة بعد موت الليث، والأمر الثاني لم يكتب الليث بن سعد كتبًا كبيرة، ولم ينقل عنه إلا النادر من الأحاديث.
توفي الليث بن سعد في مصر في يوم الجمعة 15 شعبان سنة 175 هـ، وكانت جنازته عظيمة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي والي هارون الرشيد على مصر، ودفن في مقابر الصدفيين في القرافة الصغرى بحي الخليفة جنوب القاهرة، وقبره مشهور، ولابن حجر العسقلاني كتاب في سيرة الليث بن سعد سمّاه الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية[3].
[1] خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي: تابعي شهد فتح مصر
[2] عمرو بن الحارث: تابعي وشيخ الليث.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك