ملخص المقال
حضارة الإيمان والتوحيد مقال بقلم الدكتور عماد الدين خليل، يبين فيه بعض خصائص الحضارة الإسلامية التي تقوم على عنصرين أساسيين هما الإيمان والتوحيد![حضارة الإيمان والتوحيد](http://books.islamstory.com/index.php/images/content/tumblr_ncd9geChfn1rm3fh1o1_1280.jpg)
إن من أهم ما تميزت به حضارتنا الإسلامية زمن تألّقها وعطائها أنها قامت في أساسها وجوهرها على الإيمان والتوحيد، بمعنى أنها انبثقت عن أصول عقدية مستمدة من منهج عمل إلهي.. وحي قادم من السماء.. وهي بهذا تجاوزت اعتبار (الوجود) المصدر الوحيد للمعرفة، وتميزت عن الأنشطة المعرفية الأخرى باعتماد هذا الأصل الخطير جنبًا إلى جنب مع الوجود. ومن ثَم تغدو الحضارة الإسلامية بشكل من الأشكال تعبيرًا متفردًا عن ذلك اللقاء المرسوم بين السماء والأرض. وهي مهما تضمنت من أخطاء وانحرافات، متعمدة أو غير متعمدة، ومهما شذت أو بعدت أحيانًا عن مسارها الأصيل، عن كونها التعبير الصادق للمنطلق المستمد من الجذور، المتوجّه صوب الهدف، فإنها تظل في نسيجها
العام.. في إيقاعها وصيرورتها وتوجهاتها ونبضها، حضارة إيمانية تعتمد (الوحي) جنبًا إلى جنب مع (الوجود).
وهي من أجل ذلك تلتزم العمل في إطار منظومة القيم التي تحددها العقيدة، وليس خارج هذه المنظومة.. ويعبر هذا الالتزام عن نفسه في مفردات سلوكية النشاط الحضاري. وفي صيغ التعامل مع نتائجه، كما أنه يعبر عن نفسه في توظيف هذه النتائج لخدمة الأهداف الإيمانية العليا للإنسان، وليس جعلها هدفًا بحد ذاته، أو أداة منفعية صرفة.
وتتمحور إيمانية هذه الحضارة، كما هو شأن كل ممارسة إسلامية، عند ( التوحيد) وتنطلق منه، منداحة دائرتها باستمرار؛ لكي تغطي كل مفردة في حياة المسلمين المعرفية والسلوكية على السواء.. إنه نقطة الجذب والإشعاع معًا.. القلب الذي يعطي ويأخذ، يضخ ويتلقى.
وبما أن التوحيد الذي ينبثق عن الشهادة التأسيسية الكبرى (لا إله إلا الله) هو المرتكز والهدف، فإنه سيدخل منذ اللحظة الأولى، في الزمن، وسيمتد في المكان إلى كل جزئية من جزئيات النشاط الحضاري؛ لكي يطبعه بهذا التقابل المؤثر الفعال مع الله الواحد جل في علاه، ويصبغه بكلمة الله التي يأخذ عنها المسلم منهاج العمل، ويتوجه إليها في الصيرورة والمصير.
ولسوف تتأكد هذه الخصيصة المحورية لدى مقارنة الحضارة الإسلامية بأية حضارة أخرى، دينية محرفة أو وضعية. إننا هنا بازاء عودة إلى الجذور.. إلى الحقيقة الكبرى في أقصى درجات وضوحها وفاعليتها وتألقها.. إن الحضارة الإسلامية سيقدر لها أن تمنح الفعل البشري وهو يعمل، فرصته في أن يستعيد وظيفته الأصيلة خليفة عن الله وحده في هذا العالم، مستعمرًا إياه بدلالة الكلمة اللغوية وليست الاصطلاحية بطبيعة الحال.
في التاريخ، في الجغرافيا، في النفس، في المجتمع، في الفلك، في الطب، في الهندسة، يعبر التوحيد الإسلامي عن نفسه.. في المعادلات الكيمياوية والجيوب واللوغارِتمات.. في المنائر الواثقة المتفردة الصاعدة إلى السماء، وفي القباب المتكورة على الخشوع والتسليم.. في كلمات الشعراء ولمسات المعماريين.. يتجلى التوحيد كما لم يتجلَّ في أية حضارة أخرى.
لقد منح التوحيد نشاطنا الحضاري عبر التاريخ وحدته المتماثلة وشخصيته المتفردة.. شد جزئياته وتفاريقه في أنساق واحدة، تتجه خيوطها جميعًا صوب الهدف الواحد، وتنبثق عنه؛ لكي ما يلبث النسيج في نهاية الأمر أن يجيء معبرًا بلسان الحال عن صنع يدي نساج واحد.
على مستوى الدافع يضع التوحيد العالم المسلم قبالة الله -سبحانه- مسئولاً عن قدراته التي أودعه الله إياها، ساعيًا لأن يستثمرها حتى حدودها القصوى. على مستوى الهدف تصاغ معطيات هذا السعي المعرفي، لكي تكون متوافقة مع كلمة الله، متجاوزة ما وسعها الجهد أيما قدر من الثنائية أو الازدواج.
وفي كل الأحوال فإن التوحيد يصير دافعًا لمزيد من العطاء، وعاملاً لوحدة هذا العطاء، ومنحه سماته الأصيلة المتفردة.
في التوحيد يغدو الكون والعالم والطبيعة من صنع الله القادر المهيمن المبدي المعيد، ويتحرر العالم المسلم من سائر الخرافات والصنميات التي تلبستها الطبيعة والعالم في المذاهب والأديان الأخرى، فعرقلت انطلاقه الحر للكشف عن السنن والطاقات والنواميس.. إن التوحيد يضع العالم المسلم حرًّا في مواجهة الكتلة الكونية، فاعلاً مريدًا.. يضعه فوق هذه الكتلة سيدًا على الخلائق، ومن ثَم يصير التوحيد فرصة كبرى للتحقق بالمعرفة، للاستزادة منها، من أجل الإمساك بتلابيب العالم والطبيعة والحياة.. والتقرب أكثر إلى الله.
ودائمًا كان التوحيد هو صمام الأمان عبر تعامل الحضارة الإسلامية مع الحضارات الأخرى، فلا تأخذ، في الأعم الأغلب، إلا ما ينسجم وإياه، ولا تمرر إلا ما يسمح هو بتمريره إلى شبكة الحضارة الإسلامية. وها هنا أيضًا أعطى التوحيد الفرصة لهذه الحضارة بأن تتحقق أكثر بوحدتها وخصوصيتها، لا سيما إذا تذكرنا أن الحضارات الأخرى، كانت تنبض في إيقاعها، في كثير من الأحيان، أصوات الآلهة والصنميات والثنائيات والأضداد.
بإيجاز، حيث لا يسمح المجال بالاستفاضة في موضوع يحتمل المزيد، فإن التوحيد كما يقول الدكتور إسماعيل الفاروقي -رحمه الله- في كتابه (جوهر الحضارة الإسلامية): "هو الذي يعطي الحضارة الإسلامية هويتها. هو الذي يربط بين أجزائها. هو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيؤسلمها ويطهرها، فتخرج من عبورها في التوحيد متجانسة مع كل ما حولها. قديمًا وحديثًا كتب مفكرونا آراءهم في جميع الميادين تحت عنوان التوحيد؛ وذلك لأنهم رأوا فيه المبدأ الأكبر الذي يشمل جميع المبادئ الأخرى، ورأوا فيه القوة الكبرى التي تفجرت عنها جميع المظاهر المكونة للحضارة الإسلامية".
التوحيد هو الشهادة عن إيمان بأن (لا إله إلا الله) هذه الشهادة السلبية في مظهرها، والمختصرة اختصارًا لا اختصار بعده، تحمل أسمى المعاني وأجلها. فإذا أمكن التعبير عن حضارة برمتها بكلمة واحدة، إن أمكن صب كل الثراء والتنوع والتاريخ في أبلغ الكلام وهو أقصره طولاً وأكثره دلالة، كان هذا في (لا إله إلا الله) عنوانًا للتوحيد، وبالتالي للحضارة الإسلامية.
المصدر: موقع مكتبات مجلة الفكر الحر.
التعليقات
إرسال تعليقك