الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مِن الناس مَن تستخفُّه التوافه فيستحمق سريعًا، ومنهم مَنْ تستفزِّه الشدائد فيبقى -رغم وقعها الأليم- محتفِظًا برجاحة فكره
مِن الناس مَن تستخفُّه التوافه فيستحمق سريعًا، ومنهم مَنْ تستفزِّه الشدائد فيبقى -رغم وقعها الأليم- محتفِظًا برجاحة فكره، ولين خُلُقه, ومِن ثَمَّ كانت درجات الناس متفاوتةً في الثبات أمام المثيرات، وأنبياء الله -عليهم السلام- في القمة العالية من هذا الخُلُق الكريم الحلم والصفح؛ فهذا هود عليه السلام رغم شتائم قومه واتهامهم له بالسفاهة يجيب في بساطة: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 67].
أما محمد صلى الله عليه وسلم فالمحفوظ من سيرته أنه ما انتقم لنفسه قطُّ إلاَّ أن تُنْتَهَكَ حُرْمة الله؛ فالغضبُ يذهب بصاحبه مذاهب حمقاء.
ومن هنا كان نهي رسول الله عن الغضب حين قال له رجل: علِّمني شيئًا، ولا تُكْثِر عليَّ؛ لعَلِّي أَعِيه. قال: "لا تَغْضَبْ"[1]. لقد كان العرب الأوَّلون يفخرون بأنهم يُلاقون الجهل بجهل أشدَّ:
أَلاَ لا يَجْهَلَنْ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْـلِ الْجَاهِلِينَـا[2]
ولكنَّ الإسلام جاء ليُكَفْكِف من هذا النزوان[3]، ويُقِيم أركان المجتمع على الفضل، فإن تعذَّر فالعدل، ولن تتحقَّق هذه الغاية إلاَّ إذا هَيْمَنَ العقل الراشد على غريزة الغضب.
ومِنَ الناس مَنْ لا يسكتُ عند الغضب، فهو في ثورة دائمة، وتَغَيُّظ يطبعُ على وجهه العبوسَ، إذا مسَّه أحدٌ ارتعش كالمحموم، وأنشأ يُرغي ويُزبد[4]، ويلعن ويطعن، والإسلام بريء من هذه الخلال الكدرة، قال : "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الْفَاحِشِ، وَلا الْبَذِيءِ"[5].
على أن الإيمان كُلَّما رَبَا في القلب رَبَتْ معه السماحة، وازداد الحِلْم، ونفر المرء من طلب الهلاك والغضب للمخطئين في حقِّه، فعندما قِيَل لرسول الله: ادعُ على المشركين والعنهم. قال: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً"[6].
وقد حرَّم الإسلام المهاترات السفيهة، وتبادل السباب بين المتخاصمين؛ لئلاَّ يؤَدِّيَ ذلك إلى الغضب الذي هو موقد الفساد، على أنَّ مِلاكَ النجاة من هذه المنازعات الحادَّة تغليبُ الحِلْم على الغضب، وتغليبُ العفو على العقاب.
وحياة رسول الله مليئة بنماذج الحلم والصفح عن أشدِّ المسيئين إليه، وأعتى المجرمين في حقِّه، لقد كان نموذجًا عمليًّا لما يدعو إليه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فهو القائل في حديثه الشريف: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ تعالى عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ"[7].
[1] البخاري: كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (5765)، والترمذي (2020)، واللفظ له عن أبي هريرة t، وأحمد (8729)، وابن حبان (5689).
[2] البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي، وهو من معلقته المشهورة من بحر الوافر، التي مطلعها: أَلا هُبِّي بِصَحنِكِ فَاصبَحينـا *** وَلا تُبقي خُمورَ الأَندَرينـا
[3] النَّزَوان: التفلُّت والسَّوْرة والحدة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نزا 15/319.
[4] أرغى فلان وأزبد: أي ضجَّ غضبًا وتوعَّد. انظر: المعجم الوسيط، مادة زبد ص358.
[5] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة (1977) عن عبد الله بن مسعود t، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه. وقال الألباني: صحيح، انظر السلسلة الصحيحة (320). وأحمد (3839) وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح، ولكن هذا الإسناد منكر. والحاكم (29) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بهؤلاء الرواة عن آخرهم، ثم لم يخرجاه.
[6] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (2599) عن أبي هريرة t، وأبو يعلى الموصلي (6040).
[7] أبو داود: كتاب الأدب، باب من كظم غيظًا (4777) عن معاذ بن أنس t. قال الشيخ الألباني: حسن، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2753). والترمذي (2021) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه (4186)، وأحمد (15675).
التعليقات
إرسال تعليقك