جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
الثورة العربية ضد الخلافة العثمانية والتمهيد لوعد بلفور مقال يوضح حقيقة الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين ودور بريطانيا فيها وملابسات التمهيد
الثورة العربية ضد الخلافة العثمانية هي ثورة قام بها الشريف حسين حاكم مكة ضد الدولة العثمانية في يونيو عام 1916 بدعم من بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى؛ حيث تمكن أفراد القبائل الذين انضموا إلى الثورة من تفجير خط سكة قطارات الحجاز بمساعدة ضابط المخابرات البريطاني "لورنس[1]"، ومنعوا وصول الدعم العثماني إلى الحجاز، ثم طردوا الجيش العثماني من مكة والمدينة والطائف وجدة وينبع والعقبة ومعان ودمشق وأخيرًا حلب في عام 1919م.
وكان ذلك نذيرًا ببدأ ضياع فلسطين..
فقد اتفق الشريف حسين مع بريطانيا على إنشاء مملكة للعرب، يكون الشريف حسين ملكًا عليها، وتضم هذه المملكة الحجاز والعراق وسوريا والأردن وعاصمتها مكة المكرمة، مع استبعاد فلسطين من الاتفاق حيث كان يرتب لها أشياء أخرى في المستقبل..
كما تم الاتفاق على التعاون العسكري بين المملكة العربية الوليدة وبريطانيا، الذي كان يعني فرض الحماية البريطانية على المملكة نظير حماية المصالح الإنجليزية في المنطقة الإسلامية، ووقوف الشريف حسين إلى جانب بريطانيا في مواجهة الخلافة العثمانية!
وبموجب هذا الاتفاق قام الشريف حسين بحمل سيفه لضرب الخلافة العثمانية في ظهرها؛ بينما كانت دولة الخلافة تحارب في الغرب والشمال أوربا الشرقية وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وبينما تحارب في الشرق روسيا القيصرية يأتي الشريف ويطعن في الجنوب، فيضرب الجيش التركي المسلم في الشام وفلسطين..
وذلك ليس بمسمى الخيانة ومساندة الصليبيين ضد دولة الخلافة؛ ولكن تحت اسم جميل عنوان براق وهو: "الثورة العربية الكبرى"؛ ثورة للتحرر -كما يقولون- من الظلم والاستبداد واحتلال الأتراك للعرب!!
سرعان ما تكشَّف زيف هذه الدعاوي؛ فعلى الرغم من تعهدات بريطانيا للعرب بقيام دولة عربية كبرى؛ فإنها أجرت مفاوضات واتفاقيات سرية مع فرنسا وروسيا تناولت اقتسام الأملاك العثمانية بما فيها البلاد العربية، ثم انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية عرفت باتفاقية "سايكس بيكو" نسبة إلى كل من المندوب البريطاني مارك سايكس[2] والمندوب الفرنسي فرانسوا جورج بيكو[3] وقد قاما بهذه المفاوضات في الفترة من نوفمبر عام 1915 إلى مايو 1916م – أي قبيل أحداث الثورة العربية- والتي افتضح أمرها بعد قيام الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا في شهر فبراير عام 1917م[4].
وعد بلفور
ثم في السنة نفسها غدرت بريطانيا بالعرب مرة أخرى حين قدمت لزعماء الصهاينة وعدًا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين من خلال ما عرف بوعد بلفور الصادر في 2 من نوفمبر 1917م.
وبلفور هذا هو "آرثر جيمس بلفور - Arthur James Balfour [5]) وزير خارجية بريطانيا، في حكومة "ديفيد لويد جورج[6]" الذي خلف أسكويث في رئاسة الحكومة البريطانية، الذي وجدت في فترة ولايته الأصوات المؤيدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين آذانًا صاغية[7]!
وكان ذلك الوعد في خطاب أرسله بلفور إلى اللورد اليهودي روتشيلد، وعلى الرغم من أنه مجرد خطاب لا يحمل أي صبغة قانونية، ونصَّ فقط على أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وسوف تبذل خير مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، فإن هذا الخطاب أصبح الأصل الرئيسي الذي اعتمد عليه الصهاينة في إقامة دولتهم..
ترنحت الدولة العثمانية تحت الضربات البريطانية المتكررة خلال سنوات الحرب العالمية الأولى؛ مما اضطرها إلى سحب قواتها من فلسطين في عام 1917م بدافع الحفاظ على الوطن التركي، وأيضًا لتجنيب الأراضي المقدسة ويلات الحروب، وبالتأكيد فإن المتغيرات الحادثة في عقر دار دولة الخلافة وارتفاع صوت أصحاب النزعات القومية كان له أعظم الأثر في اتخاذ مثل هذا القرار!
على كل الأحوال فقد تسبب سحب القوات العثمانية إلى خُلوِّ الطريق أمام القوات البريطانية لاحتلال الأراضي الفلسطينية، وبالفعل في 9 من ديسمبر 1917م كان الطريق ممهدًا أمام الجنرال الإنجليزي "ألنبي[8]" لدخول مدينة القدس المسلمة[9]!
والمحزن أن الهدف من دخول القدس كان واضحًا في ذهن الجنرال الإنجليزي أكثر منه في أذهان العرب والمسلمين؛ فقد كان أول ما قاله الجنرال الإنجليزي وهو "يتبختر" مترجلاً في أراضي المسلمين: "والآن انتهت الحروب الصليبية"[10] صورة الجنرال ألنبي يدخل مدينة القدس
جاءت سنة 1918 وانتهت الحرب العالمية الأولى، وسقطت الدولة العثمانية بعد هزيمتها، واحتلَّ الحلفاء واليونان أجزاءً منها، ووقعت الأستانة تحت سيطرة الإنجليز، وأصبح الخليفة كالأسير فيها، وقُسِّم العالم الإسلامي الخاضع للدولة العثمانية بين الحلفاء المنتصرين فيما عُرف بالانتداب..
وقُدِّر عدد القتلى من جميع أنحاء العالم في هذه الحرب بنحو عشرة ملايين إنسان، وبلغ عدد الجرحى عشرين مليونًا[11]..
فقد شَهِد العالم في هذه الحرب الدموية أسلحة لم يعهدها من قَبْلُ؛ فاستُعْمِلَت الأسلحة الكيميائية، وتم قصف المدنيين من السماء لأول مرَّة في التاريخ؛ فعلى الرغم من أن الحرب الجوية كانت في مهد طفولتها، فإن الحرب العالمية الأولى شهدت مباراة كريهة بين الدول المتحاربة في ضرب المدن ودكِّها بالقنابل والفتك بالمدنيين؛ فقنابل الطائرات تتساقط على أي مكان، لا تُفَرِّق بين الأطفال والنساء، ولا تستثني مدرسة أو مستشفى أو دورًا للعبادة، وبعدما كانت الحروب تخاض بتقابل جيشين متنازعين في ساحة المعركة بعيدًا عن المدينة، أصبحت المدن المأهولة بالسكان ساحاتٍ للمعركة؛ مما نتج عنه سقوط ملايين الضحايا[12].
كانت كل دولة تهدف إلى تحقيق السيطرة الكاملة على منافسيها، وكان فهمهم -في هذه المرحلة السوداء من التاريخ الأوربي- أن هذه السيطرة والحسم السريع لن تحدث إلا عن طريق العنف والدمار، ودَفْعِ الشعوب المحاربة إلى الإذعان والاستسلام بتهديد حاجاتهم الأساسية من طعام وشراب ومسكن، وقبل ذلك العمل على سلبهم أدنى شعور بالأمن والأمان في بلادهم.
ولكن بمرور الأيام كانت هذه السياسة الإجرامية -التي تنكَّرت لأبسط المبادئ الخُلُقيَّة التي تعارف عليها البشر كبشرٍ وليسوا قطعانًا من البهائم- تتسبب في تأجيج نيران الحرب وزيادة اشتعالها.
وقد أنشئت بعد ذلك عصبة الأمم كمحاولة لحل المشاكل بين الدول بالطرق السلمية، ولمنع مثل هذه الحروب مستقبلاً، وعلى الرغم من صواب فكرة إنشاء هيئة دولية لفض المنازعات بين الدول، وبالأخص الدول الكبرى؛ فإن الأيام أثبتت أن العلة ليست في وجود مثل هذه الهيئة، وإنما في توافر النيات الصادقة والمعايير الخلقية التي تدفع هذه الهيئة أولاً إلى أخذ القرارات العادلة، ثم تدفع ثانيًا الدول بكاملها للالتزام بقرارات هذه الهيئة وتنفيذها[13].
أمَّا فلسطين فأصبحت محتلة رسميًّا من الإنجليز، ولكي يستقر الوضع وتهدأ نفوس العرب والمسلمين أعلنت إنجلترا أنها لا تحتل البلاد؛ ولكن فقط هي انتداب وإشراف إلى أجل مسمّى، وهذا الأجل جعلته ثلاثين عامًا؛ فينتهي الانتداب الإنجليزي على فلسطين في 14 من مايو سنة 1948م!!
المصدر: خاص - قصة الإسلام
[1] توماس إدوارد لورنس (16 أغسطس 1888 - 19 مايو 1935) ضابط بريطاني اشتهر بدوره في مساعدة القوات العربية خلال الثورة العربية عام 1916 ضد دولة الخلافة العثمانية عن طريق انخراطه في حياة العرب الثوار وعرف وقتها بلورنس العرب، وقد صُور عن حياته فيلم شهير حمل اسم "لورنس العرب".
[2] مارك سايكس: العقيد سير مارك سايكس (16 مارس 1879 - 16 فبراير 1919)، مستشار سياسي ودبلوماسي وعسكري ورحالة بريطاني. كان مختصاً بشؤون الشرق الأوسط ومناطق سوريا الطبيعية خلال فترة الحرب العالمية الأولى. وقّع عام 1916 على اتفاقية سايكس-بيكو عن بريطانيا لاقتسام مناطق النفوذ في أراضي الهلال الخصيب التابعة بمعظمها آنذاك للدولة العثمانية المتهاوية..
[3] فرانسوا جورج بيكو: فرانسوا ماري دينيس جورج-بيكو، ولد في باريس، (21 ديسمبر 1870 –20 يونيو 1951) سياسي ودبلوماسي فرنسي وقّع اتفاقية سايكس-بيكو عن الجانب الفرنسي. فيما بعد، كان مسؤولاً عن إلحاق مناطق المشرق العربي للنفوذ الفرنسي والتأسيس للانتداب الفرنسي على سوريا.
[4] مصطفى الطحان: فلسطين والمؤامرة الكبرى، المركز العالمي للكتاب الإسلامي، ط1، 1994م، ص83-85.
[5] آرثر جيمس بلفور: آرثر جيمس بلفور (بالإنجليزية: Arthur James Balfour) سياسي بريطاني (25 يوليو 1848-19 مارس 1930). تولى رئاسة الوزارة في بريطانيا من 11 يوليو 1902 إلى 5 ديسمبر 1905. عمل أيضاً وزيراً للخارجية من 1916 إلى 1919 في حكومة ديفيد لويد جورج.
[6] ديفيد لويد: ديفيد لويد جورج - David Lloyd George (1863 - 1945م). أحد زعماء حزب الأحرار البريطاني. كان رئيسًا للوزراء أثناء النصف الأخير من الحرب العالمية الأولى.
[7] مصطفى الطحان: فلسطين والمؤامرة الكبرى، ص 86.
[8] إدموند هنري هاينمان ألنبي - Edmund Henry Hynman Allenby، (23ابريل 1861 - 14مايو 1936) ضابط وإداري بريطاني، اشتهر بدوره في الحرب العالمية الأولى حيث قاد الجيش البريطاني الذي استولى على فلسطين وسوريا عامي 1917 و1918..
[9] محسن محمد صالح: دراسات منهجية في القضية الفلسطينية، ص34.
[10] أميل الغوري: فلسطين عبر ستين عامًا، دار النهار للنشر، بيروت، 1972م، ص28-30.
[11] ماجد اللحام: معجم المعارك الحربية ص363.
[12] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص542، 543.
[13] راغب السرجاني: أخلاق الحروب، ص 217.
التعليقات
إرسال تعليقك