د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
المشركون وعدم الاعتراف بالإسلام، مقال د. راغب السرجاني على موقع قصة الإسلام، يتناول موقف المشركين في مكة والمدينة من الرسول والإسلام وموقف عبد الله بن
موقف المشركين من الإسلام
إنَّ موقف المشركين من رسول الله r غني عن البيان والشرح، فبرغم المسالمة الكاملة من ناحيته r ولمدة سنوات طويلة، فإنهم رفضوا الاعتراف به كُلِّيَّةً، بل إن تطاولهم عليه r وعلى أصحابه مسطور في عشرات ومئات الكتب، وحتى عندما هاجر الرسول r إلى المدينة، فإنه تعامل بمنتهى الرفق مع مشركي المدينة المنورة، ولم يُكره أحدًا منهم على الدخول في الإسلام، بل كان يتلطف إليهم ويتقرب منهم، ولكنهم كانوا دائمي الصد له.
وليس أدل على ذلك من موقفه r عندما مرَّ على مجلس يجتمع فيه المسلمون والمشركون عبدة الأوثان واليهود.. فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد[1] U قال: "إنَّ النَّبِيَّ r رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ[2] تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ[3]، وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة.
فلمَّا غشيت المجلس عجاجة الدَّابَّة خمَّر عبد الله بن أُبَيٍّ أَنْفَهُ[4] بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا!
فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ r ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ.
فقال عبد الله بن أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ (!!) لا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ.
قال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغْشَنَا به فِي مَجَالِسِنَا؛ فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ r يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: «أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ (يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ) قَالَ كَذَا وَكَذَا".
قَالَ: اُعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ وَاصْفَحْ! فَوَاللهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ[5] عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ، فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ r "[6].
الاعتراف بالآخر
فهل بعد هذه المواقف الإيجابية من رسول الله r، والمواقف السلبية من المخالفين معه أن يدَّعي مُدَّعٍ أن المسلمين لا يعترفون بغيرهم؟!
إن الاعتراف بالآخرين من صلب العقيدة الإسلامية؛ إذ إننا لا نقبل بحال من الأحوال أن نُكرِه أحدًا على تغيير دينه، وكل ما نرجوه من العالم أن يقرأ عن الإسلام من مصادره الصحيحة قبل أن يُصدر الأحكام على شرع الله U .
وفوق كل ما سبق.. فهل وقف تعامل رسول الله r مع الآخرين المخالفين له عند حد الاعتراف فقط؟!
لقد تجاوز رسول الله r هذه المرحلة إلى ما بعدها وما بعدها..
وفي المقالات القادمة سنعرض طرفًا -ليس فقط من اعترافه r بغير المسلمين- ولكن أيضًا من احترامه r لهم وتقديره لمكانتهم.
[1] هو أسامة بن زيد بن حارثة، الحِبُّ بن الحِبِّ، قاد جيش المسلمين وهو دون الثامنة عشرة من عمره، وكان عمر بن الخطاب يجله ويكرمه وفضَّله في العطاء على ولده عبد الله بن عمر. وقد اعتزل الفتن بعد قتل عثمان، توفي سنة ثمان أو تسع وخمسين. انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/170، وابن الأثير: أسد الغابة 1/91، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 89.
[2] إكاف: هو للحمار بمنزلة السرج للفرس.
[3] قطيفة فدكية: قطيفة دثار مخمل، جمعها قطائف، وقطف. فدكية منسوبة إلى فدك، بلدة في شمال المدينة.
[4] خمَّر أنفه: أي غطاه.
[5] البحرة: هي القرية أو البلد، والمراد به هنا المدينة النبوية. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 8/232.
[6] البخاري: كتاب الاستئذان، باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين 5899، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في دعاء النبي r وصبره على أذى المنافقين 1798.
التعليقات
إرسال تعليقك