الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الحج وأثره في تطور الرعاية الطبية، مقال يتناول حث الإسلام على الطب وإسهامات الأطباء في موسم الحج منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم
الطب عند العرب والمسلمين
كان العرب في صدر الإسلام لا يعنون بشئ من العلوم إلا بلغتهم، ومعرفة أحكام شريعتها، ما عدا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم؛ لحاجة الناس الملحة إليها. غير أن هذا الطب كان بدائيًا، يعتمد على تقديم النصائح السلمية المتوراثة عن بعض العجائز والمشايخ للمرضى، ووصف بعض الأعشاب لعلاجهم.
وقد حث الإسلام على التداوي، وتعلم الطب فكان أول بيمارستان في الإسلام هو تلك الخيمة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وجعل فيها امرأة تدعى "رُفيدة" كانت تداوي الجرحى وتقوم على خدمتهم.
بناء البيمارستان
وكان في مكة قبيل العصر الأموي دار تسمى دار مال الله، تقع في رباع بنى عامر بن لؤي، يقيم فيها المرضى، اشتراها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من أصحابها أثناء خلافته.
فكانت بمثابة بيمارستان لأهل مكة وغيرهم من الحجيج والوافدين على بيت الله الحرام. مع وجود أطباء يقومون على رعاية وعلاج هؤلاء المرضى.
وفي العصر الأُموي ازدهر الطب بعد نقل وترجمة كتب الطب، والاستعانة بالأطباء الذين كانوا يعملون في بيمارستان جنديسابور الذي أسسه كسرى ملك الفرس، بالإضافة إلى بناء البيمارستان في عهد الوليد بن عبد الملك.
إسهامات الأطباء في موسم الحج
أما عن إسهامات الأطباء في موسم الحج، فقد روى أن سعد بن أبي وقاص مرض بمكة في حجة الوداع فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد : "يا رسول الله، ما أراني إلا لما بي"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنى لأرجو أن يشفيك الله حتى يُضر بك قوم وينتفع بك آخرون"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ادعوا له الحارث بن كلدة فإنه رجل يتطبب"، فلما عاده الحارث نظر إليه وقال: ليس عليه بأس، اتخذوا له فريقة، بشئ من تمر عجوة، وحلبة، ثم أوسعهما سمنًا، وأمر بالخليط فيطبخ، ثم أمر سعد أن يحتسى منه، ففعل ذلك فبرئ.
مما يعد دليلا على التداوي والأخذ بالأسباب، كما يدل على حضور الأطباء مواسم الحج وقيامهم على علاج المرضى.
وينوه المؤرخ حجازي على طراوة عن حادثة طعن عمر بن الخطاب عقب عودته من الحج في سنة 23هـ وقد شاهد هذا الحادث الحجيج، فأرسلوا إلى طبيب من العرب، فسقى عمر نبيذًا فخرج منه، فقال الناس: هذه حمرة الدم، ثم دعوا طبيبا آخر من الأنصار ثم من بنى معاوية، فسقاه لبنًا، فخرج اللبن من الطعنة بصلد أبيض، فقال الطبيب لعمر: يا أمير المؤمنين، أعهد، فقال عمر: صدقني أخو بنى معاوية. مما يدل على وجود أطباء من ذوي الخبرة في المدينة المنورة، كانوا يقومون بعلاج المرضى والجرحى من أهلها والوافدين عليها.
إضافة لوجود طبيبات من النساء استنادًا لقول عروة بن الزبير: "ما رأيت أعلم بالطب من عائشة (أم المؤمنين عائشة). فقلت لها: يا خالة، من أين تعلمت الطب؟. فقالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض. فكانت من الحريصين على حضور موسم الحج، ولم تكن تتردد في علاج من يأتيها من الحجيج في الموسم حتى اشتهرت بعلما للطب، كما اشتهرت بغيره من العلوم.
وفي العصر الأموى كان الخلفاء يصحبون معهم أطباء أثناء أدائهم لفريضة الحج، أو يكلفون طبيبًا بمصاحبة أمير الحج.
فقد حج الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فمر بالمدينة، فأتاه سُعية بن غُريض فقال له: أسألك بالحق الذي كان بين أبي سفيان وبين أبي إلا نزلت عندي، فأتاه، فلما قُدِّمَ الطعام جاء الطبيب، فجعل يقول : كُلْ ذا، ودَعْ ذا. مما يعد دليلا على أن الخليفة كان يرافقه أثناء الحج طبيبًا يتولى علاجه، ويشرف على طعامه، ويرشده إلى أفضل الأطعمة، ويحذره من المُضرِّ منا، ولا يُستبعد أن هذا الطبيب كان يقوم بالكشف على الطعام خشية أن يكون به سُمًا يقضي على حياة الخليفة، خاصة وأن القتل بالسم كان منتشرًا في هذا العهد.
وعندما خرج يزيد بن معاوية على رأس قافلة الحج في سنة 50هـ، كلف والده معاوية الطبيب أبو الحكم الدمشقي بمرافقته في زيارته للحرمين الشريفين، وكان الحكم عالمًا بأنواع العلاج والأدوية.
وعندما حُوصر عبد الله بن الزبير في المسجد الحرام في سنة 72هـ ضرب فسطاطًا في المسجد الحرام، فكان فيه نساء يعالجن الجرحى ويداوينهم.
وهذا يؤكد أن المرأة كان لها حظ وافر من المعرفة بعلم الطب، وعلاج الجرحى، فضلا عن وجود بيمارستان في ساحة القتال.
وممن حضر موسم الحج من الأطباء، وكان له باع كبير في علم الطب وبصيرة به، خالد بن يزيد بن معاوية.
وكانت خرقاء صاحبة ذي الرمة تنزل على طريق الحج، وكانت تقعد للحجيج تحادثهم وتهاديهم، فرمدت عين ذي الرمة فغدى عليها فكحلتها له فبرأت فشبب بها، وهذا يدل على أنها كانت على علم بالطب، وعلاج العيون.
وأرمد عمر بن عبيد الله بن معمر، وهو مُحرم، فأراد أن يكحلها فنهاه أبان بن عثمان بن عفان أمير الحج وأمره أن يضمدها بالصبر وزعم أن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك.
وكان عبد الملك بن أبجر الطبيب يصحب عمر بن عبد العزيز وهو أمير، ومن المعروف أن عمر ولى إمارة الحج خمس سنين، فلا ريب في أن عبد الملك بن أبجر كان يصحبه في الموسم، لاسيما وأنه قد أعلن إسلامه على يد عمر بن عبد العزيز.
فالإسلام دين علم ومعرفة حث على التداوي واهتم بصحة الحجاج في موسم الحج ليظهر لنا بوضوح الدور العظيم الذي قام به الحج في إثراء كثير من العلوم الدينية، واللغوية، والأدبية، والعقلية، مما أدى إلى ازدهار الدراسات الطبية والعلمية في الحرمين الشريفين.
_________________
المصدر: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، سبتمبر 2014م
التعليقات
إرسال تعليقك