ملخص المقال
بنو غانية أسرة حكمت ميورقة والجزائر الشرقية البليار في الأندلس، ودخلت في صراع مع الموحدين، فمن هم بنو غانية ومراحل صراعهم ع الموحدين؟
بنو غانية أسرة بربرية حكم عددٌ من أفرادها مدَّةً جزيرةَ ميورقة وما جاورها في الجزائر الشرقية (جزر البليار) في الأندلس، واستطاعوا أن يستولوا على المغرب الأوسط وإفريقية، وكان من سوء حظ دولة الموحدين أن ابتليت بمشكلة بني غانية التي لم تقدرها الدولة حق تقديرها وأصبحت في النهاية من أسباب سقوط الدولة.
لقد كان بنو غانيه شوكة ضد الموحدين وكانوا من خيرة المجاهدين ضد القوى الصليبية، واشتهروا بالغزو البحري لجنوب فرنسا وقطلونيا، وساروا على سنة أسلافهم في العقائد والتزام منهج أهل السنة والدعاء للخليفة العباسي في بغداد واتخاذ ألويتهم السوداء شعارًا لهم، وهادنوا الموحدين بعض الوقت، ثم دارت بينهما حروب انتهت بزوال ملك بني غانية وضعف دولة الموحدين. فمن هم بنو غانية؟ وما مراحل صراعهم مع دولة الموحدين؟
علي بن يحيى المسوفي
ينتمي بنو غانية حكام الجزائر الشرقية (البليار) إلى قبيلة مسوفة الصنهاجية، وكان كبيرهم علي بن يحي المسوفي مقربا لدى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين وأحد رجالاته. فزوَّجه امرأة من أهل بيته تسمى غانية، فنُسبوا إليها، وهو تقليد مرابطي معروف.
محمد بن غانية
فولدت "غانية" لعلي محمدا ويحيى. وكان الأخ الأكبر يحيى حسنة من حسنات الدهر، اجتمع له من المناقب ما افترق في كثير من الناس، منها أنه كان رجلًا صالحًا شديد الخوف من الله عز وجل، والتعظيم له والاحترام للصالحين، هذا مع علو قدم في الفقه، واتساع في رواية الحديث وكان مع هذا شجاعًا فارسًا إذا ركب عُدّ وحده بخمسائة فارس. وكان علي بن يوسف بن تاشفين الملثمي يعده للعظائم ويستدفع به المهمات، وأصلح الله على يديه كثيرًا من جزيرة الأندلس، ودفع به عن المسلمين غير مرة مكاره كانت قد نزلت بهم، منها إنقاذ جزيرة فراغة في شمال شرق الأندلس عام 529هـ من ألفونسو ملك أراغون، بعد ما أحتل هذا سرقسطة وتطليه وقلعة أيوب.
وليّ علي بن يوسف بن تاشفين يحيى بن غانية مدينة بلنسية، ثم عزله عنها ليوليه قرطبة، فلم يزل بها واليًا الى أن مات سنة (543هـ/1148م). وكان أول الفتنة على المرابطين ثابتًا على موالاتهم ومقاومة الموحدين.
وكان الأخ الأصغر محمد يتولى النظر من قبل أخيه على بعض أعمال قرطبة، بعثه أمير المسلمين علي بن يوسف إلى الجزائر الشرقية لإصلاح ما فسد من أمورها على يد الوالي المرابطي وانور بن أبي بكر اللمتوني، فنزل ميورقة، وذلك في عام 520هـ/ 1126م. وقد شاء القدر أن يكون تعيين محمد بن غانية لولاية الجزائر الشرقية، ممهدًا لتطور أحوالها، ودخولها في عهد جديد من تاريخها، وقيام دولة جديدة مستقلة بها هي دولة بني غانية. ذلك أن محمد بن غانية ضبط الجزائر، وحكمها بقوة وحزم، وطالت أيامه بها، حتى توفي أمير المسلمين علي بن يوسف سنة 537هـ.
واضطربت أحوال الدولة المرابطية في المغرب، وقامت الثورة في أنحاء الأندلس على المرابطين، وولى أخوه يحيى بن غانية قرطبة وما إليها من قبل تاشفين بن علي بن يوسف في سنة 538هـ، وأخذ يخوض من ذلك التاريخ مع الثوار ومع النصارى، حروب ووقائع مستمرة، إلى أن توفي في غرناطة في سنة 543هـ / 1148م.
فلما مات يحيى اضطرب أمر محمد في حين كانت الفتنة تتزايد ودعوة الموحدين تنتشر، فصار يجول في الأندلس، ولما خاف على نفسه قصد مدينة دانية، وعبر منها إلى جزيرة ميورقة في حشمه وأهل بيته فملك الجزيرة والجزيرتين المجاورتين لها (مينورقة ويابسة)، وتعرف جميعها بالجزائر الشرقية أو جزائر البليار Baléares شرقي الأندلس، وهي جزر خصبة معتدلة المناخ، أسَّس فيها دولة مستقلة ضبطها لنفسه، ودعا فيها لبني العباس جريًا على عادة المرابطين.
عاصر محمد بن علي المسوفي المعروف بابن غانية أفول نجم المرابطين في عدوة المغرب والأندلس، وقيام دولة الموحدين التي ورثت المرابطين في حكم بلاد العدوتين، فعزز ابن غانية حكمه في هذه الجزائر النائية واستمر ولاؤه للمرابطين ولدولة بني العباس، وأصبحت جزائره ملجأ للفارين من فلول لمتونة والمرابطين الذين لقوا الرعاية والأمان في ظل حكم هذه الأسرة، واستمر محمد بن غانية يحكم الجزائر الشرقية إلى عام 550هـ/1155م.
إسحاق بن محمد بن غانية
خلف محمد بن غانية أربعة أولاد، وهم عبد الله وإسحاق والزبير وطلحة، وكان قد عهد بالحكم بعده إلى ابنه الأكبر عبد الله، وهنا تختلف الرواية، فقيل إن عبد الله خلف أباه بعد وفاته على حكم الجزائر، ثم خلفه بعد وفاته أخوه الأصغر إسحاق. وقيل إن إسحاق حقد على أخيه عبد الله حينما عُيِّن لولاية العهد، ودبر مؤامرة قتل فيها أخوه، وتولى هو على أثرها حكم الجزائر، وذلك في سنة 550هـ / 1155م. وانتظم الأمر له وحسنت حاله، واستمر على سياسة أبيه في استقبال فلول لمتونة الوافدين عليه، فكثر الداخلون عليه في جزره من بقايا اللمتونيين فأحسن إليهم ووصلهم قدر طاقته. واعتنى بالجيش والأسطول، وأقبل إسحاق بن محمد على الجهاد في سبيل الله وسجل صفحات عطرة خالدة في جهاده الميمون، وكان في كل عام يغزو مرتين بلاد الروم -غرب إيطاليا وجنوب فرنسا- فيغنم وينكى في الأعداء أشد نكاية، وأشتد بذلك عوده وقوى أمره، وتشبّه بالسلاطين العظام.
اعتمد إسحاق بن غانية على أسطول قوي، حسبت له الممالك الإسبانية وجمهوريات جنوه وبيزا والبندقية ألف حساب ودفع ملوكها الأموال الطائلة لهذا الأمير، وعقدوا معه المعاهدات لضمان تحرك أساطيلهم التجارية بحرية في حوض البحر المتوسط، وذلك في عام 572هـ/1177م.
كان بنو غانية في الجزائر الشرقية يشعرون بالأمان خلال قتال ابن مردنيش للموحدين، ولكن بعد وفاة ابن مردنيش عام 567هـ/1172م، وبسط الموحدون سيطرتهم على بلنسية ومرسية وشاطبة وبلاد الساحل الشرقي، شعر إسحاق بن غانية بالخطر فأخذ في مصانعة الموحدين والتودد إليهم بإرسال الهدايا الثمينة إلى حكامهم. ثم بعث الموحدون كتبهم إلى إسحاق بن غانية في عام 578هـ/1183م يدعونه فيها إلى الدخول في طاعتهم، فأعطاهم العهود المؤجلة، واستشار وجوه أصحابه، فاختلفوا عليه، فمنهم من أشار بعدم طاعة الموحدين والامتناع عنهم بجزر البليار، ومنهم من رأى الدخول أسلم لحماية الأنفس والأغراض. فكان يماطلهم في أمر طاعتهم والدعاء لهم، ويبالغ في مجاملتهم ويشغلهم عنه بهداياه وكانوا يلحّون عليه ويتوعدونه وهو يسوّف، وفي عام 579هـ/1184م خرج ذلك المجاهد الكبير في غزوة من غزواته، فأكرمه الله بالشهادة. وله من الولد علي وهو الأكبر وعبد الله ويحيى وأبو بكر وسير وتاشفين ومحمد والمنصور وإبراهيم.
علي بن إسحاق بن غانية والصراع مع دولة الموحدين
قام بعده بالأمر بعهدٍ منه ابنه علي بن غانية، الذي استغل الظروف السيئة التي مرت بها دولة الموحدين والمتمثلة في فشل قواتهم أمام مدينة شنترين ومقتل خليفتهم أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558 - 580هـ) في عام 580هـ/1184م، ومبايعة الأمير الجديد أبي يوسف يعقوب بن يوسف الملقب بـ المنصور الموحدي (580 - 595 هـ)، وانشقاق بني عبد المؤمن على أنفسهم وامتناع بعضهم عن البيعة للأمير الجديد، فشجعت هذه الظروف علي بن إسحاق بن غانية على التمرد على دولة الموحدين، بل وأكثر من ذلك شحن قواته البحرية وقرر مهاجمة مدينة بجاية قاعدة الحكم في المغرب الأوسط.
دخول بني غانية بجاية
هناك جملة أسباب دفعت علي بن إسحاق إلى مهاجمة بجاية: منها معرفة أهل الجزائر الشرقية بأحوال هذه المدينة وأهلها بسبب التبادل بينهما، ومنها الدعوات الكثيرة التي تلقاها أمير الجزائر الشرقية من أعيان هذه المدينة يدعونه فيها إلى القدوم، ومنها الخطط التي رسمها علي بن إسحاق والتي أملته بالتعاون مع خصوم الموحدين في المنطقة وهم: طوائف العرب من بني هلال، ورياح الذين قضى الموحدون على ثورتهم عام 576هـ/1181م، ثم الاعتماد على معونة بني حماد أصحاب بجاية الذين قضى الموحدون على ملكهم، بالإضافة إلى الاعتماد على بني مطروح في طرابلس، وعلى قراقوش التقوي مملوك صلاح الدين الأيوبي.
سار الأمير علي بن إسحاق بالأسطول الذي يقوده رشيد الرومي، ونزل بجاية فسيطر عليها بسهولة لخلوها من وسائل الدفاع، وذلك في عام 580هـ - 581هـ/1184 - 1185م. تصدى والي بجاية الموحدي (أبو الربيع سليمان) للقوات الغازية، فانهزم أمامها إلى تلمسان فتحصن بها تحسبًا للظروف.
ثم غادر بجاية بعد تنظيم أمورها وقصد قلعة بني حمَّاد ونواحيها فملكه، ثم وسار علي بن إسحاق بقواته فاتحًا المدن المهمة أمثال: مليانة ومازونة وأشير، وامتنعت عليه مدينة قسنطينة. وقطع علي بن غانية الخطبة للموحدين في البلاد التي استولى عليها، وتلقب بأمير المسلمين (وهو لقب المرابطين وقد زالت دولتهم)، وأمر بالدعاء للخليفة العباسي الناصر لدين الله (575 - 622هـ).
الصراع بين المنصور الموحدي وبني غانية
ولما علم الخليفة الموحدي المنصور (580 - 595هـ) جهز جيشًا بريًا قويًا وعهد قيادته إلى ابن عمه السيد أبي زيد بن أبى حفص، وجهز الأسطول البحري الذي خرج من سبتة معاونًا الجيش البري وفق خطة حربية واحدة. وقد استطاعت الجيوش الموحدية المشتركة استرجاع المدن التي استولى عليها ابن غانية تباعًا، ودمرت الأسطول البحري وأسرت قائده رشيدًا الرومي وذلك في عام 581هـ/ 118م، فهرب علي بن إسحاق وأخوه يحيى وأعوانهما إلى جوف الصحراء فعجز الموحدون عن اللحاق بهم.
وصل بنو غانية إلى منطقة الواحات ببلاد الجريد وكسبوا ود قبائل العرب من بني رياح وبني جشم بالعطايا والهبات، وفي هذه الأثناء بلغ علي بن إسحاق بن غانية نزول شرف الدين قراقوش بقواته الغز بلدة الحامة في جهات طرابلس، فراسله من أجل التعاون بينهما لرفع راية بني العباس هناك، واتفقا على تقسيم البلاد التي يستوليان عليها سوية، فالبلاد الواقعة غربي بونة أي المغربين الأوسط والأقصى من حق علي بن إسحاق بن غانية، وأما البلاد الواقعة شرقي بونة فمن حق قراقوش، وكان هذا الاتفاق في عام 581هـ/1185م.
وبعد هذا الاتفاق حاول علي بن إسحاق السيطرة على البلاد التي أصبحت من ضمن حقه، فهاجم مدينة أشير واستولى عليها، إلا أن القوات الموحدية استرجعت المدينة بعد مقتل قائد الجيش المهاجم. ثم سار علي بن غانية إلى مدينة توزر فاستولى عليها بعد عناء وذلك في عام 582هـ/1186م. ثم قصد جزيرة باشر وهي بالقرب من تونس فاستولى عليها، ثم حاصر مدينة تونس، ولكن يبدو أن علي بن غانية قد فشل في الاستيلاء عليها، فقصد في عام 582هـ مدينة قفصة فحاصرها واستولى عليها بمعاونة أهلها. وفي الوقت نفسه استولى قراقوش بمعاونة بعض العرب من بني ذياب على جبل نفوسة ثم سار يساعدهُ مسعود بن زمام شيخ بني رياح وسيطر على طرابلس وما جاورها.
وبعد ذلك انضم قراقوش بقواته إلى قوات علي بن إسحاق بن غانية فقصدوا بلاد أفريقية (دولة تونس) فملكوها جميعًا ما عدا مدينتي تونس والمهدية لقوة تحصيناتهما، وبعدها تلقب علي بن غانية بلقب أمير المسلمين وأقام الدعوة للخلافة العباسية في هذه البلاد، واتبع ذلك سفارة ابنه وكاتبه عبد البر إلى بغداد فلقيا الترحاب من الخليفة الناصر الذي طلب بدوره من صلاح الدين الأيوبي أن يناصر بني غانية في أعمالهم.
معركة سهل عمرة
كان بنو غانية وحلفاؤهم قد اتخذوا الصحراء ملجأهم، فكلما تضيق عليهم الدائرة يفرون إلى الصحراء ثم لا يلبثوا أن يعودوا من جديد. ورأى الخليفة المنصور الموحدي أن أمر بني غانية وحليفهم قراقوش بلغ درجة كبيرة من الخطورة، فسار بقواته في عام 582هـ/1186م صوب تونس، وبعد أن استراح فيها بدأ بإرسال قواته لمقاتلة بني غانية المرابطين قرب مدينة قفصة، فأوقع بنو غانية هزيمة منكرة بالقوات الموحدية التي رجعت فلولها مدحورة إلى تونس، وذلك في عام 583 هـ/ 1187م، وعرفت هذه المعركة بمعركة سهل عمرة.
كان لهزيمة سهل عمرة وقع مؤثر في نفس الخليفة المنصور الموحدي الذي سار بنفسه من تونس في رجب من عام 583هـ/1187م واتجه جنوبًا صوب القيروان، ومن هناك بعث كتابًا إلى ابن غانية وحلفائه ينذرهم بوجوب الدخول في الطاعة، فلم يكتف علي بن غانية بعدم رد الجواب بل اعتقل أيضًا سفير الخليفة الموحدي.
هزيمة ابن غانية على يد المنصور
بعدها سار المنصور الموحدي بقواته صوب ابن غانية، فنشبت المعركة بين الطرفين في شعبان من عام 583هـ/1187م وانتهت هذه المعركة بهزيمة ابن غانية وحليفه قراقوش، حيث استطاع خليفة الموحدين دخول قابس فسيطر على اتباع قراقوش وماله من ذخائر ومتاع، فأرسلها جميعًا إلى مراكش. ثم سار الخليفة المنصور صوب مدينة توزر ففتحها ثم دخل مدينة قفصة وأرجعهما إلى الطاعة، ثم رجع إلى مدينة تونس.
نتيجة انتصار خليفة الموحدين هذا، خذل قراقوش وابن زيان زعيم الغز حليفهم ابن غانية، فراسلوا خليفة الموحدين طالبين العفو منه والدخول في طاعته. وبعدها سار المنصور لضرب قبائل العرب التي تعاونت مع ابن غانية فألحق بهم الهزائم وهجّر زعماء الخلاف وأتباعهم إلى بلاد المغرب الأقصى؛ ليستخدمها في الجهاد ضد النصارى ويأمن من ثوراتها المستمرة. وقد انضم إلى جيوش الموحدين كثير من الأعراب والأتراك، واستطاع المنصور يعقوب بن يوسف أن يوحد بلاد المغرب كلها غربها وشرقها إلى المحيط الأطلسي غربا. وبعد أن رتب أمور تونس غادرها إلى مراكش في عام 584هـ/1188م.
يحيى الثاني بن إسحاق بن غانية
كان علي بن غانية بعد هزيمته قد فر إلى الصحراء، وظل بها إلى أن مات عام 584هـ/ 1188م، بعد أن فشل في الاستيلاء على بلاد الجريد. وكان علي بن غانية حين خرج من ميورقة خرج معه من إخوته عبد الله ويحيى الثاني وأبو بكر وسير الذين بقوا بعد الهزيمة مع من بقي من أصحابهم، فقدموا عليهم يحيى، ثم لحقوا بالصحراء، وساكنوا العرب فيها إلى أن رجع أمير المؤمنين أبو يوسف الموحدي عن المنطقة إلى المغرب.
تولى أمر بني غانية يحيى بن إسحاق الذي بدأ ولايته بالحرب مع قراقوش، الذي أعلن العصيان على الموحدين أولًا، ومن ثم سيطر على بعض المناطق التي كانت تحت سيطرة علي بن إسحاق بن غانية. ثانيا، تصدى يحيى ابن غانية لقراقوش فهزمه في موضع محسن بالقرب من طرابلس، ثم سار ابن غانية صوب طرابلس ودخلها عنوة، بعد أن وصلته إمدادات عسكرية من أخيه عبد الله حاكم ميورقة، وأسر حاكم طرابلس ياقوت مولى قراقوش الذي بقي أسيرًا في ميورقة إلى أن دخلها الموحدون، ثم سار ابن غانية صوب قابس وشدد الحصار عليها فدخلها عنوة في عام 591هـ/1195م.
انقلاب موحدي في ميورقة
وخلال حروب بني غانية في بلاد إفريقية حصلت أمور في الجزائر الشرقية غيرت موازين القوى فيها، ففي عام 581هـ/1186 م استطاع قائد الخليفة الموحدي المنصور علي بن الربرتير الذي كان معتقلًا في جزيرة ميورقة (وكان الخليفة الموحدي أرسل سفيره علي بن الربرتير هذا إلى الجزائر الشرقية يدعو أهلها إلى الطاعة، فسجنه بنو غانية هناك) أن ينتهز غياب معظم أمراء بني غانية في أفريقية فيتصل ببعض الجنود المسيحيين المرتزقة الذين كانوا في خدمة بني غانية والراغبين في العودة إلى بلادهم، فوعدهم بتحقيق ذلك، فقام معهم بانقلاب ضد حكم بني غانية، وانضم إليهم حاكم الجزيرة السابق محمد بن إسحاق بن غانية الذي كان أخوته قد خلعوه واعتقلوه بالجزيرة، حينما اعترف بطاعة الموحدين عند مقدم الربرتير إلى ميورقة، واعتقل في أقصى الجزيرة، واتفق على إعادة تنصيبه والياً للجزائر. فأقامه الثوار حاكمًا على الجزيرة باسم الموحدين ثم عاد علي بن الربرتير إلى مراكش بعد أن سرح الجند المسيحيين وأعادهم إلى بلادهم حسب الوعد.
وفي رواية أخرى أن محمدًا بن إسحاق غادر ميورقة مع الربرتير ولحق بالحضرة، ليقدم طاعته بنفسه إلى الخليفة. وهكذا حكم محمد بن إسحاق ميورقة في ظل طاعة الموحدين الإسمية. على أن نفوذ الموحدين على جزيرة ميورقة لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما علم بنو غانية في أفريقية بأخبار هذا الإنقلاب فسارع الأمير عبد الله بن غانية بالرجوع إلى الجزيرة عن طريق صقلية، واستطاع عبد الله استرداد الجزيرة من أخيه مستعينًا بمؤيديه بزعامة المولى نجاح وخَلْقٌ من الفلاحين ورعاة الغنم المؤازرين، وكان ذلك في سنة 583هـ / 1187م، واستردت الجزائر في عهد عبد الله قوتها ورخاءها، واستمر في رياستها أعواماً طويلة، وهو يعاود الغزوات البحرية للشواطىء النصرانية القريبة، حتى كان افتتاح الموحدين للجزائر في سنة 599هـ / 1203م. ثم إنه نفى إلى الأندلس أخاه محمدًا الذي حظي لدى الموحدين فولوه مدينة دانية، وظل فيها حتى مات.
وفي الوقت نفسه حاول الخليفة المنصور إنقاذ جزيرة ميورقة. فأرسل الأسطول إليها إلا أن زمام الأمور كان قد أفلت من يده، وبخاصة وأن أسطول ملك أراجون الإسباني بيدرو الثاني تدخل لصالح أهل ميورقة. إلا أن جزيرتي يابسة ومنورقة وقعتا تحت سيطرة الموحدين في عام 583هـ/1187م وبقيت كبرى الجزر ميورقة خارجة عن طاعة الموحدين، وحاول عبد الله بن غانية استرجاع هاتين الجزيرتين فلم يفلح.
الخليفة الناصر الوحدي والصراع مع بني غانية
ومع وفاة الخليفة الموحدي المنصور عاد بنو غانية الميورقيون إلى شن غاراتهم على إفريقية، فتجددت الحروب بين الموحدين خلال عصر الخليفة أبي عبد الله محمد الناصر (595 - 610هـ) وابن غانية في إفريقية وذلك خلال سنتي 595 - 597هـ بعد أن سيطر ابن غانية على أكثر بلاد إفريقية، حيث سار السيد أبو الحسن بن السيد أبي حفص بقواته لملاقاة ابن غانية فأصيب بالهزائم المنكرة، وأجبرت فلوله على الفرار، وكان ذلك بالقرب من مدينة قسنطينة.
وفي الوقت نفسه تنافس يحيى بن إسحاق بن غانية وأحد قادة الموحدين المدعو ابن عبد الكريم على مدينة المهدية، فاستطاع ابن غانية السيطرة عليها بعد مفاوضات ومناورات طويلة ذهب ابن عبد الكريم وولده ضحية هذا الأمر. واستكمل ابن غانية سيطرته على إفريقية، فسيطر على مدينة باجة ثم دخلت مدينة بسكرة وبونة في طاعته. ثم سار ابن غانية بعد ذلك صوب مدينة تونس في عام 599هـ/1203م ودخلها بعد حصار طويل، وقبض على السيد أبي زيد وأعوانه، ثم سار صوب جبل نفوسة فأرجعه إلى الطاعة بعد إعلان أهله العصيان، وبذلك أصبح ابن غانية سيد إفريقية بلا منازع وخطب فيها لبني العباس في بغداد.
ولما استفحل أمر بني غانية في إفريقية، أدركت الدولة الموحدية أن القضاء عليهم في إفريقية، يجب أن يسبقه القضاء على مركز قوتهم في جزيرة ميورقة، لأن هذه الجزيرة كانت بمثابة المورد الذي يغذي بني غانية في إفريقية بالرجال والعتاد، لذلك رأى الخليفة الموحدي الناصر لدين الله (595 - 610هـ) أن استقرار نفوذ الموحدين في إفريقية لن يستتب إلا إذا استولى على جزيرة ميورقة وجزر البليار قاعدة بني غانية ومصدر المتاعب التي يواجهها الموحدون في افريقية لهذا صمم الناصر على بسط نفوذه في تلك الجزر مصدر القلق المستمر للموحدين.
نهاية حكم بني غانية
وشرع أبو محمد الناصر بتوجيه حملة بحرية كبرى الى الجزائر الشرقية كان قد أعدها لهذا الغرض في ثغر دانية وأسند قيادة الأسطول إلى عمه أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن كما أسند قيادة الجيش إلى شيخ الموحدين أبي سعيد عثمان بن حفص. كانت الحملة تتكون من ألفين ومائتي فارس وسبعمائة من الرماة وخمسة عشر ألف من الرجال وغير رجال الأسطول وكان الأسطول في ثلاثمائة جفن (سفينة) (أو أنواع السفن) وأقلعوا يوم السبت 24 ذي حجة 599هـ/ 1203م من جزيرة يابسة قاصدين ميورقة، فدخلتها بعد عناء كبير، وأحاطوا بها وخرج إليهم عبد الله بن غانية لكنه هزم وقتل على يد رجل من الأكراد يعرف باسم عمر المقدم. وتغلب رجال الأسطول والجيش على المدينة ودخل أبو العلاء إدريس قائد الأسطول والشيخ أبي سعيد عثمان قائد الجيش ثم تحرك الأسطول الى جزيرة منورقة فدخل البلد عنوة وأرسل حاكمها الى العاصمة مراكش وبذلك تم للموحدين احتلال الجزر الشرقية أو جزر البليار وتم لهم ذلك 600هـ/1203م وأقيم عليها عبد الله بن طاع الله الكومي واليًا عليها وبذلك يكون الموحدين قد قطعوا جذور بني غانية في الجزر الشرقية (جزر البليار وهي ميورقة ومنورقة ويابسة).
ثم بعد ذلك تفرغ الخليفة الموحدي لقتال بني غانية في بلاد إفريقية والمغرب الأوسط. فسيّر إليهم الجيوش في عام 601هـ/1204 م والتي قادها بنفسه ويعاونها الأسطول البحري، وخلال الأعوام من 601 هـ إلى عام 631هـ (وهي السنة التي مات فيها يحيى بن إسحاق بن غانية) بدأت رياح المعارك تهب في غير صالح بني غانية في بلاد إفريقية، فاستطاعت الجيوش الموحدية استرجاع مدن إفريقية (تونس والمهدية) تباعًا من أيدي بني غانية بعد أن ألحقت بهم الهزائم المتكررة. وفر يحيى بن غانية بأهله وولده الى صحراء ليبيا، وأقام الناصر الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي جد ملوك الحفصييين واليًا على أفريقية وأعطاه مطلق التصرف في إدارتها.
واستطاع الوالي الموحدي الجديد أن يقضي على مقاومة الأعراب وبني غانية وأحلافهم في أفريقية ونستطيع أن نقول إن عام 604هـ الذي كانت فيه موقعة الزاب النهاية الحقيقية لنشاط بني غانية في إفريقية، لقد تعقب أبو محمد الحفصي جيوش يحيى بن غانية حتى أنهكها وشتت جموعها وأحلافها. وفي عام 631هـ أو سنة 633هـ/ 1234م / 1236م توفى يحيى بن إسحاق بن غانية في مدينة مليانة على نهر شلف في الجزائر، وانفض جمعه وانتهى أمره ولاذ بعض أقربائه، ومنهم أخوه سير بالموحدين، فأكرموهم بالمال وأقطعوهم. قال ابن خلدون معلقا على موته: "وانفض أمر الملثمين من مسّوفة ولمتونة من جميع بلاد إفريقية، والمغرب والأندلس، بمهلكه، وذهب ملك صنهاجة، من الأرض، بذهاب ملكه وانقطاع أمره". وقيل إن يحيى بعث قبيل وفاته ببناته إلى الأمير أبي زكريا ليعشن في كنفه، فأكبر الأمير الحفصى حسن ظنه، وأحسن كفالتهن، وابتنى لصونهن دارًا خاصة بحضرة تونس، عرفت بقصر البنات، وأقمن بها في عيش رغد، محروسات مشمولات بأقصى رعاية، حتى توفين عانسات معمرات، ولم يقبلن الزواج من أحد.
وصارت إفريقيا للموحدين في ذلك التاريخ. وكان هذه نهاية ثوار المرابطين الذين قضوا حياتهم في معارك طاحنة مع الموحدين. وقد أضعفت هذه الحركة قوات الموحدين نحو نصف قرن من الزمان.
ونستطيع أن نقول: لقد كان الدافع العقدي لثورة بني غانية واضح المعالم، لأنهم رأو في الموحدين دولة منحرفة عن أصول منهج أهل السنة والجماعة ولأنهم حرصوا على وحدة الأمة تحت لواء الدولة العباسية ولذلك سعى بنو غانية الى تأسيس دولة سنية على نهج دولة المرابطين التي كسبت سمعة طيبة عطرة بسبب اخلاصها وصادقها للاسلام الصحيح وهذا يفسر لنا وقوف أهالي المغرب الاوسط وأفريقية لمدة تزيد عن أربعة عقود مع ثورة بني غانية.
لقد كان فشل تلك المحاولة الجادة التي قام بها بنو غانية بسبب الضربات الموحِّدية القوية والمركزة وبسبب ضعف الخلافة العباسية التي لم تستطع أن تمد بني غانية بالعدة والسلاح والرجال في حربهم الطويلة مع دولة الموحدين وبسبب انشغال الأيوبيين بمشاكلهم الداخلية بعد وفاة صلاح الدين وبحروبهم مع والحملات الصليبية الحاقدة.
_____________________
المصادر والمراجع:
- عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، وزارة الثقافة، دمشق 1978م.
- ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، المحقق: خليل شحادة، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408هـ / 1988م.
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: جـ 1، 2، 5/ الرابعة، 1417هـ - 1997م، جـ3، 4/ الثانية، 1411هـ - 1990م.
- د خليل إبراهيم السامرائي - د عبد الواحد ذنون طه - د ناطق صالح مصلوب: تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، الناشر: دار الكتاب الجديد المتحدة - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 2000م.
- علي الصلابي: دولة الموحدين، الناشر: دار البيارق للنشر، عمان.
- زامباور، معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي، دار الرائد العربي، بيروت 1980م.
- يوسف الأمير علي: بنو غانية، الموسوعة العربية العالمية.
التعليقات
إرسال تعليقك