التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ظهور فرقة الخوارج مقال يوضح تكون فرقة الخوارج التي رفضت التحكيم بين علي ومعاوية بعد صفين، وخروجهم على علي رضي الله عنه، وبداية بلورة فكر وعقائد الخوارج.
محاورة المحكمة، وظهور فرقة الخوراج
لم يكن الرافضون للتحكيم قد لُقِّبوا بعد بالخوارج، فإنَّهم لم يكن قد انفصلوا عن جيش عليٍّ حين غادر صفين عائدًا إلى الكوفة، غير أنَّ عودتهم كانت مفعمة بالنقاشات العنيفة والمشادَّات؛ فقد رجعوا متباغضين، أعداءً يتشاتمون ويتضاربون بالسياط، وأقبل بعضهم يتبرَّأ من بعض، الأخ من أخيه، والابن من أبيه[1]، متجاوزين روابطهم العائلية والقبلية والإقليمية من أجل رابطةٍ أخرى عقدية، كاهتداء شخصي إلى الحقيقة، وخرق لرواسب الدم؛ ممَّا يدلُّ على عمق تأثير الحادثة في نفوسهم، وقد عبَّروا عن رفضهم بشعار: "لا حكم إلَّا لله، الذي سيصبح بدءًا من تلك اللحظة وعلى امتداد قرون، الشعار الأساسي للخوارج والقاعدة التي ستقوم عليها عقيدتهم، وقد ورد تفسير هذا الشعار في العديد من الدراسات[2]، ويتَّفق معظم الباحثين على القول: إنَّه يُعبِّر عن رفض هذه الجماعة للتحكيم بوصفه من اختصاصات الله وحده، ولا يحقُّ للبشر أن يتدخلوا فيه، ويتوافق هذا التفسير مع المدلول اللُّغوي لكلمة "حكم" بمعنى القضاء وفصل النزاع، ومع ما ذكره القرَّاء أثناء النقاش الذي دار بينهم وبين ابن عباس وعليٍّ بعد صفين.
انفصال الخوارج عن جيش علي رضي الله عنه
الواقع أنَّ الجماعة الرافضة للتحكيم انفصلت عن جسم الجيش العراقي عندما وصل إلى الكوفة وتوجَّهت إلى حروراء[3]، واستقرَّت فيها مُعلنةً رفضها الإقامة في المصر مع الخليفة الذي لم يُلبِّ مطالبها حيث بدأ يتبلور مفهوم "الخروج" بمعنى مغادرة المكان الذي يقيم فيه المخالفون[4]، ومن هنا تسميتهم بالحروريَّة.
الواضح أنَّ هؤلاء قاموا بنشر معتقداتهم بطريقةٍ جيِّدة وبفعل حججهم المقنعة، ومن واقع إعادة قراءةٍ كاملةٍ لأحداث الفتنة استقطبوا عددًا آخر من المقاتلين العراقيين من خارج دائرة القرَّاء -كانوا في البداية مع التحكيم- فأضحى عددهم اثني عشر ألف رجلٍ[5]، والمعروف أنَّ عددهم في بداية تحرُّكهم لم يتجاوز أربعة آلاف رجل، ممَّا يدلُّ على اتِّساع دائرة الرفض للتحكيم.
اختار الحرورية عند استقرارهم في حروراء أميرًا على الصلاة هو عبد الله بن الكواء اليشكري، وآخر على الحرب هو شبث بن ربعي التميمي[6]، ويدلُّ ذلك على استعدادهم للمواجهة العسكرية إذا دعت الضرورة، ويُذكر أنَّ استعمال القوَّة لمواجهة المخالفين أضحى أمرًا مألوفًا منذ مقتل عثمان، كما رفعوا شعاراتٍ جديدةً مثل: "الأمر شورى بعد الفتح"، و"البيعة لله عزَّ وجل" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[7]، وهو ما تميَّزوا به على المستوى الفكري، أمَّا على المستوى السياسي؛ فإنَّ مرحلة حروراء سوف تغدو مهمَّة لحاضرهم ومستقبلهم.
قد تبدو تلك الشعارات المطروحة متقدمة على الخلافة ذاتها، لا سيما رفضهم الضمني لسيادة قريش عندما اختاروا عبد الله بن وهب الراسبي -وهو أزدي من اليمن- خليفةً عليهم[8]، متجاوزين لأوَّل مرَّة القاعدة المتداولة منذ بيعة السقيفة، فهل يُمكن ربط التوجُّه الاقتصادي والسياسي لهؤلاء بما جرى من أحداثٍ سابقةٍ حين ثارت القبائل التي انفصلوا عنها على الخلافة، مطالبين بحقوقهم التي شعروا بانتهاك الولاة لها؟[9].
الواقع أنَّ الثورة التي اندلعت في الكوفة في عام 33هـ تحمل في طياتها البذرة الجنينية للثورة على سلطة قريش في ظلِّ خلافة عثمان، من خلال مشاركة الخوارج أو بعضهم في هذه الثورة، وإذا كان عليٌّ رضي الله عنه قد نجح في استقطاب هذه القبائل الثائرة بعد تلك الفتنة فإنَّ ذلك كان آنيًّا فقط، وتمكَّن من امتصاص نقمتها حين شغلها بالحروب. من هذه الرؤية التي تنطوي على شيءٍ من الحقيقة يُمكن تفسير موقف الخوراج من التحكيم، على الرغم من أنَّهم شكَّلوا حركةً سياسيةً مختلفة اتَّخذت التطرُّف الدينيِّ منهجًا لاستقطاب الأتباع وفرض آرائها بالقوَّة[10].
محاولات عليٍّ بإعادة الخوارج إلي الكوفة
مهما يكن من أمر فقد أقلقت الحرورية عليًّا، لذلك حاول إقناعهم بالحجة للعودة إلى الكوفة، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس، ثُمَّ انتقل بنفسه إلى حروراء، وتمدُّنا روايات المصادر بتفاصيل مسهبة عن المناظرات والنقاشات التي دارت بينهم وبين مبعوث عليٍّ رضي الله عنه، ثُمَّ بينهم وبين عليٍّ رضي الله عنه نفسه[11]، التي أسفرت عن اقتناعهم، فعاد معظمهم إلى الكوفة وبخاصَّةٍ العناصر القيادية منهم، مثل: عبد الله بن الكواء اليشكري أمير الصلاة، وشبث بن ربعي أمير الحرب، ويزيد بن قيس الأرجحي رأس الجماعة[12].
يبدو واضحًا من خلال تتبع أسماء العائدين أنَّهم من العناصر اليمنية التي أيَّدت عليًّا، من النخع ومذحج وهمدان وغيرها، وبذلك أضحى أبناء القبائل الأخرى وبخاصَّةٍ تميم يُشكِّلون الأغلبية في المجموعة المتبقية، وقد افتقر هؤلاء للشرف القبلي وللزعامة السياسية، هذا بالإضافة إلى بقاء خمسة عناصر من اليمنية في حروراء من بينهم عبد الله بن وهب الراسبي الذي ستختاره المجموعة لقيادتها، ممَّا دفع بعض الباحثين إلى وصف الحرورية بأنَّها حركة بدو تزعَّمها أعرابٌ يرفضون -بحكم طبيعتهم البدوية- الخضوع للحكم المنظَّم[13].
يحتمل أن يكون العائدون قد اشترطوا على عليٍّ -للعودة إلى الكوفة- إقراره بذنبه في قبول التحكيم، وإعلان توبته. وتذكر المصادر الخارجية أنَّه عبَّر بالفعل عن توبته، كما وعدهم باستئناف الحرب ضد معاوية بعد أن يجبي المال ويسمن الكراع، وأكَّدت المصادر غير الخارجية ذلك، لكن ختمت الرواية بالقول: "ولسنا نأخذ بقولهم، وقد كذبوا"[14].
لم تدم إقامة الحرورية -المحكِّمة- في الكوفة طويلًا، فقد تعرَّض عليٌّ رضي الله عنه لضغطٍ من قِبَل الأشعث والأشراف، أو أنه لم يشأ أن يتنصَّل من التزاماته وتعهداته تجاه أهل الشام، فتراجع عن تعهداته تجاه الحروريَّة، مقدِّرًا أن تبقى حركتهم محصورة في نطاق نواتها المتشدِّدة بعد أن استقطب سوادها، وكان قراره بإرسال أبي موسى الأشعري لإتمام إجراءات التحكيم، كافيًا لتفجير الوضع من جديد.
وفعلًا، فقد اتَّخذ الخلاف في هذه المرحلة بُعدًا أكثر عنفًا، حين راح الحرورية يجاهرون برفضهم للتحكيم في الأماكن العامَّة وفي المسجد الجامع، كما كانوا يُقاطعون خطب الخليفة ويستفزونه برفع شعاراتهم، واتَّهموه بالكفر والشرك، وتمادوا حين هدَّدوه بالقتل[15].
واجه عليٌّ رضي الله عنه هذه التصرفات بصبرٍ كبير، ولم يحاول -على الرغم من هذه الاستفزازات- إنزال العقاب بهم، كما لم يمنعهم الفيء ودخول المساجد ولم يتصدَّ لهم ما لم يسفكوا دمًا[16]، مبرِّرًا تصرُّفه بحرصه الشديد على تجاوز الخلافات وتجنُّب حصول انقسامٍ في معسكره؛ لأنَّ من شأن ذلك أن يُضعف موقفه في مواجهة خصمه الرئيس معاوية.
تكوُّن فكر الخوارج
بعد أن فشلت محاولات ثنيه عن قراره عقَدَ الحرورية اجتماعاتٍ مكثَّفةً في منازل عبد الله بن وهب الراسي وشريح بن أوفى العبسي وزيد بن حصين الطائي[17]، وقرَّروا الخروج من الكوفة، وظهرت أفكارٌ جديدةٌ عبَّرت عنها هذه الجماعة، فقد شبَّهت الخروج من الكوفة بهجرة الرسول من مكَّة إلى المدينة وابتعاده عن كفار قريش[18]، من هنا تسمية الخوارج أنفسهم بالمهاجرين، وتسمية الكوفة بالقرية الظالم أهلها، كما كفَّروا المخالفين لهم وتبرَّأوا منهم. وهكذا، فبعد أن شمل التكفير في حروراء معاوية وأنصاره، أضحى -بعد قرار إجراء التحكيم- يشمل الخليفة وأتباعه[19].
الواقع أنَّ ربط الحرورية مواقفهم السياسية بالدين سيدفعهم إلى تبنِّي فكرة الخطأ الديني وتكفير من يخالفهم ومحاربتهم، وسيعدُّون ذلك واجبًا مقدَّسًا؛ لأنَّهم "أهل الحق"[20]، ولعلَّ أوضح الأمثلة على ذلك هو إعدامهم الصحابي عبد الله بن خباب وامرأته بعد محاكمةٍ سريعة[21].
المصدر من كتاب: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش.
__________
[1] البلاذري: 3/114، 115، والطبري: 5/63، واليعقوبي: 2/91، والمسعودي: 3/143، 144.
[2] انظر البكاي: ص28، 29.
[3] حروراء: قرية من قرى الكوفة على بعد ميلين منها. الحموي: 2/245.
[4] البكاي: ص29.
[5] الطبري: 5/63.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه، والبكاي: ص30، 31.
[8] المصدر نفسه: ص75.
[9] بيضون: ص91.
[10] بيضون: ص91-93.
[11] الطبري: 5/65، 66، والبلاذري: 3/122، 123، 127-129.
[12] الطبري: المصدر نفسه.
[13] الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص131، وأمين: ص261،
وقارن بالبكاي ص33.
[14] الطبري: 5/66.
[15] الطبري: 5/72-75.
[16] المصدر نفسه: ص74.
[17] المصدر نفسه.
[18] المصدر نفسه: ص75.
[19] البلاذري: 3/131.
[20] البكاي: ص36.
[21] الطبري: 5/81، 82.
التعليقات
إرسال تعليقك