د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
مقدمة كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني
وقف يشكو لي حاله في الصلاة.. قال: إن ذهنه ينصرف دومًا عن تدبُّر القرآن، وبمجرَّد دخوله في الصلاة يذكر عشرات الأشياء، التي يغرق فيها تمامًا حتى تنقضي الصلاة.. بل إنه يذكر أشياء اجتهد كثيرًا قبل الصلاة في تذكُّرها ولكنه فشل، فإذا به يذكرها في صلاته.. قال لي: هذه مشكلة مزمنة أُعاني منها في معظم الأوقات!
قلتُ له في هدوء: أخي؛ هذا عَرَضٌ لمرض خطير! فمشكلتك الحقيقية ليست في الصلاة ذاتها -مع الأهمية العظمى للصلاة- ولكنها أعمق من ذلك -يا للأسف!- وعَرَضُك هذا بالغ الخطورة؛ ومع ذلك فأنا أحمد الله أنك تشكو! فهذا يعني أنك مهتمٌّ، وهذا بداية الحلِّ إن شاء الله.
حاوَلَ أن يُجادل قليلًا، ويقول: أيُّ مرض يا دكتور؟ أنا -الحمد لله- بخير.. وعلاقتي بالله على أفضل ما تكون، وربي يُكْرِمني دائمًا.. لكنها فقط مشكلة «السرحان في الصلاة»! أعتقد أنني أحتاج بعض التركيز.. لا أُريد تهويل الموقف!
قلتُ له: دعنا نترك هذا الموضوع، ولنتدبَّر في مَثَلٍ مُعَبِّر قد تتَّضح به الصورة: هل إذا دخلتَ على رئيسك في العمل تطلب علاوة، أو تستأذنه في قضاء مصلحة لك، أو تطلب عفوه على خطأ بدر منك يستوجب العقاب أو الطرد.. هل في هذه الحالة تطلب طلباتك وأنت لاهٍ غافل، أم تكون في قمَّة التركيز؟!
سكت صاحبي، ولاحظتُ عليه بعض مظاهر الارتباك!
قلتُ له: دعك من المثال السابق، وتعالَ معي نحلُّ المعضلة التالية! رجل كريم له أفضال كثيرة عليك.. لسبب أو لآخر وقعتَ في حقِّه، وخالفتَه فيما يحبُّ، وأتيتَ ما يكره.. ثم مرَّت الأيام واحتجتَ أن تقترض منه مبلغًا من المال! ولم تجد غيره، فكيف ستُرَتِّب كلماتك حتى يقبل أن يُعطيك بعد خطئك في حقِّه؟!
بدت على صاحبي أمارات الحيرة، ولم ينطق.. أو لعلَّه تمتم بحروف لم أفهمها!
قلتُ له: لا داعي للحيرة.. لنكن عمليين.. هذا موقف وارد جدًّا.. وكلنا مُعرَّضٌ لمثله.. تعالَ نفكِّر معًا في أنسب طريقة للطلب منه:
لعلَّنا نبدأ بالاعتراف له بأفضاله السابقة..
ثم نُثني على كرمه الذي يعرفه الجميع..
ثم نعتذر صراحة عن أخطائنا في حقِّه..
ونَعِدُ ألَّا نعود لمثلها..
فإذا غلب على ظننا أنه رضي عنَّا تشجَّعنا فطلبنا القرض الجديد..
فإن أعطانا شكرناه كثيرًا أنه قَبِل أن يسمع منَّا؛ بل أن يُعطينا، على الرغم من خطئنا السابق في حقِّه..
وإن لم يُعطنا قلنا له: معك كل الحقِّ؛ فالمال مالك، ونحن مخطئون، ونحن لم نطلب القرض استحقاقًا له، إنما طمعًا في كرمك.
ثم قلتُ لصاحبي: هل فهمت المثال والمعضلة؟!
قال: نعم.. وما الحيلة؟!
قلتُ: يسيرة! فلنُسْقِط هذا المثال، وهذه المعضلة على علاقتنا بالله عز وجل، نخرج من الأزمة بإذن الله..
لو دخلنا في الصلاة بشعورٍ قريبٍ من شعورنا عندما ندخل على رئيسنا في العمل، عندما نُريد منه طلبًا، أو إذنًا، أو عفوًا لكان خشوعنا في الصلاة كبيرًا، ولو دخلنا في الصلاة ونحن نُريد من ربنا أن يُحَقِّق لنا أمانينا في الدنيا والآخرة، مع علمنا أننا أخطأنا كثيرًا في حقِّه، وأنه سَتَرَنا طويلًا، وحَلُمَ علينا كثيرًا، وأعطانا أكثر مما طلبنا منه، وليس لنا غيره.. لو دخلنا بهذه الروح عليه فإن الخشوع سيأتي لا محالة..
إن الغريق لا يمدُّ يده لمن يُنقذه وهو لاهٍ غافل!
إن غفلتنا في واقع الأمر لا تعني إلَّا شيئًا واحدًا: هو أننا لا نَقْدِرُ لله قَدْرَه!
أليس هذا شيئًا خطيرًا؟!
إن هذا هو المرض الذي تعدَّدت أعراضه!
من أعراضه قلَّة الخشوع في الصلاة، أو في الدعاء، أو عند قراءة القرآن..
ومن أعراضه حبُّ الدنيا، والتعلُّق بزينتها، وغلبتها على القلب..
ومن أعراضه استصغار الذنوب ورؤيتها بسيطة..
ومن أعراضه نسيان الموت، وعدم الاستعداد له..
ومن أعراضه الفتور عن أعمال الخير..
ومن أعراضه قلَّة الهمَّة لقيام الليل..
ومن أعراضه هجر القرآن، فلا نختمه إلَّا في رمضان..
ومن أعراضه الحذر من الجهاد؛ بل تجنُّب ذِكْره..
ومن أعراضه السكوت عن الحقِّ..
ومن أعراضه.. ومن أعراضه.. ومن أعراضه..
لقد وَضَحَت الرؤية فيما أعتقد!
إننا ينبغي ألَّا ننظر إلى الخشوع في الصلاة على أنه مجرَّد «تجميل» للأداء! ولكن علينا أن ننظر إليه على أنه «توقير» لله رب العالمين.. وبالتالي فكلما زاد توقيرنا لله عز وجل زاد خشوعنا في الصلاة؛ ومن ثَمَّ صار طلبنا من الله أن يُعطينا ويغفر لنا، ويُكرمنا، ويرزقنا أمرًا منطقيًّا، أمَّا أن ندخل في الصلاة بقلوب غافلة، وعقول لاهية، وأجساد متهالكة لا تقوى على قيام سليم، أو سجود مطمئنٍّ، ثم نطلب ونطلب ونطلب.. فهذه والله حماقة!
ليسألْ كلٌّ منَّا نفسه: لماذا كان أرجى الدعاء هو دعاء السجود؟ ولماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»[1]؟
إنني أرى في ذلك حكمة عظيمة تُفَسِّر لنا طبيعة الصلاة، وطبيعة العلاقة بين العبد والربِّ..
لكن قبل عرض هذه الحكمة دعونا نقف مع مشكلة متكرِّرة!
إن بعض المُصَلِّينَ يعتبر أنه قد أدَّى ما عليه إذا وقف دقائق أمام الله يُؤَدِّي بعض الحركات التي يُسَمِّيها صلاة! وأنه صار من «حقِّه» حينئذٍ أن يطلب ما يشاء!
أخي الحبيب: مَنْ أنت؟
هل تعرف معنى العبودية للربِّ؟
فلنتدبَّر مليًّا في هذه النصوص، وأمثالها؛ فإنها ستقودنا إلى المعرفة بإذن الله:
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: «يَا عِبَادِي؛ إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالمُوا، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[2].
من فضلك أعد قراءة الحديث القدسي السابق مرَّة ثانية بتمهُّل شديد.. بل أعد قراءته مرَّة ثالثة أو رابعة!
هل تعلم أن أبا إدريس الخولاني[3] كان إذا حدَّث بهذا الحديث جَثَا على
رُكبتيه[4] من شدَّة توقيره لله عز وجل؟!
هل أدركتَ معنى العبد ومعنى الربِّ؟ وهل فهمت مغزى الصلاة؟
نصٌّ آخر يحتاج منَّا إلى وقفات: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لَا، وَلَا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ[5]»[6].
كم تُمَثِّل أعمالنا بالقياس بأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نتَّفق جميعًا أنه لا مقارنة بين رسول معصوم -بل هو خير الرسل جميعًا، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين[7]- وبين عباد يُخطئون بالليل والنهار.. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو أعرف الخلق بربِّه- يرى أنه لن يدخل الجنَّة إلَّا برحمة الله عز وجل؛ ومن ثَمَّ كان يرجو بكل ذرَّة في كيانه هذه الرحمة، فلماذا ندخل نحن في صلاتنا بشعور المستكفي، الذي ضمن الجنَّة، ولكنَّه يُريد فوقها أشياء!
ثمَّ وقفة مع هذا النصِّ: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا؛ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا، فَيَقُولُ اللهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى. فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى. فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ المَلِكُ». فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وكان يُقَالُ ذلك أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً[8]. وفي روايةٍ أن الله عز وجل أجاب العبد بقوله: «إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»[9].
إن كان هناك من البشر مَنْ يَدَّعي أنه يستطيع أن يقضي لك حاجتك، ويُحَقِّق لك آمالك، ويُعطيك ما تتمنَّاه في الدنيا، فمَنْ هذا الإنسان الذي يدَّعي أنه يملك شيئًا في الآخرة؟ إننا جميعًا نُقِرُّ ونعترف لله عز وجل بالتصرُّف الكامل في هذا اليوم الرهيب دون أدنى ادِّعاء من أي مخلوق بالمشاركة.. قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16].. فانظر إلى كرمه وقدرته؛ حيث لا يملك أحدٌ أن يُعطي إلَّا هو، ولو أعطى القليلَ لقَبِلَ الناس راضين، فإذا به يُعطي أقلَّ أهل الجنة نعيمًا مِثْلَ عشرة أمثال الدنيا! قدرةً.. وكرمًا.. وربوبيةً!
وأخيرًا، وقبل العودة إلى مسألة الدعاء في السجود، لِنَعِشْ قليلًا مع خشوع وخضوع الرسول صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربِّه؛ لنعرف المستوى الذي ينبغي أن نقارن به، والمعيار الذي يجب القياس عليه: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا». قال: فقيل: يا رسول الله؛ ألا نَتَعَلَّمُهَا؟ فقال: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا»[10].
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[11].
وأرجو أن نُعيد قراءة الأدعية السابقة؛ لنُدرك مدى احتياج الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، فكيف بنا؟!
وعودة مرَّة أخرى إلى السؤال: لماذا كان الدعاء في السجود أرجى من غيره، وما الحكمة فيه؟
واقع الأمر أن وضع السجود هو أكثر أوضاع الصلاة خضوعًا لله عز وجل، وأكثر المواطن ذلًّا له سبحانه وتعالى؛ ففيه تخضع الجبهة التي يعتزُّ بها الإنسان، ويسجد الأنف الذي يشمخ به الناس.. إنه المقام الذي لا يَقْبَل أحدٌ سَوِيُّ الفطرة أن يفعله إلَّا لله عز وجل؛ ومن هنا كان هذا أعظم إعلان للعبودية لربِّ العالمين، وإذا أدرك العبد طبيعة هذه العلاقة فإن إجابة دعائه تكون قريبة؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 186]، فالله قريبٌ من «عباده»، أما الذي لا يُدرك كُنْه هذه العلاقة فكيف يقترب من الله؟!
غير أن هناك حكمة أخرى جميلة ودقيقة أراها من وراء جعل السجود هو موطن الإجابة الأقرب في الصلاة.. وهي أن السجود هو آخر عمل في الركعة، فكأنَّ كلَّ الركعة في تكبيرها وفاتحتها وقرآنها وركوعها وحمدها، ما هي إلَّا مقدِّمة مجَّدْتَ فيها الله وعظَّمْتَه حتى وَصَلْتَ في نهايتها إلى السجود الذي تطلب فيه من الله بغيتك.. وإذا رجعنا إلى المثال الذي ضربناه قبل ذلك، وفيه نطلب قرضًا من صاحب فضلٍ وقعنا في حقِّه، تُصبح الركعة كلها هنا كالمحاولات التي نبذلها للاعتذار عن خطئنا، ولتقديم التبجيل والتعظيم، وإظهار الانكسار والضعف، لنصل في النهاية إلى الموضع الذي نطلب فيه على استحياء ما نُريده من صاحب الفضل.
ومن هنا جاء حثُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا على كثرة الدعاء في السجود، وعلى الاجتهاد فيه؛ فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «.. فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ[12] أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»[13]. فنحن لا ندعو في الركوع؛ حيث إننا لم نستكمل بعْدُ المقدمات التي تكفل لنا الإجابة، أمَّا إذا قُمْنَا في الركوع وغيرِه من أركان الركعة بتعظيم الله وتمجيده والاعتذار له، فإن إجابة الدعاء في السجود تكون أقرب، ومن المفيد أن تعرف أن هذه الوصية كانت في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مرضه الذي تُوُفِّيَ فيه[14]؛ مما يدلُّ على أهمِّيتها القصوى، وحِرْصِ الرسول صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لنا حتى مع شدَّة ألمه وتعبه.
ولعلَّ هذا هو السبب كذلك في مشروعية الدعاء بعد التشهُّد الأخير في الصلاة؛ فمن السُّنَّة النبوية أن ندعو في موضعين رئيسين في الصلاة: السجود، وبعد التشهُّد قبل التسليم[15]. فكما أن السجود هو آخر أعمال الركعة، وجدير أن يُستجاب لنا كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن التشهُّد هو آخر أعمال الصلاة كلها، وقد عظَّمْنا اللهَ كثيرًا في كل أركانها، فحان وقت الطلب من الله سبحانه وتعالى؛ لذلك وردت في السُّنَّة النبوية أدعية كثيرة للغاية يقولها المُصَلِّي بعد التشهد وقبل أن يُسَلِّم، وسنعرض لها بإذن الله في ثنايا الكتاب عند حديثنا عن التشهُّد والتدبُّر فيه.
وكذلك يمكن أن نفهم لماذا جعل الله عز وجل القنوت في صلاة الوتر[16].. فبعد أن صَلَّيْتَ كثيرًا من الليل، وعظَّمت الله عز وجل طويلًا في هذه الركعات جاء وقت الطلب والمناشدة.. وتأمَّل صورةً من الطلب الذي تُقَدِّمه إلى الله عز وجل كما رواها لنا الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما فقال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهنَّ في قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ»[17]. فهنا بعد صلاة الليل كلها، أو حتى بعد صلاة اليوم كله، نختم عبادة اليوم الطويل بدعاء طويل! نطلب الهداية والمعافاة والموالاة والبركة، ولم يكن ذلك إلَّا بعد تمجيد الله في كل الصلوات السابقة.
والفكرة نفسها في الدعاء المعروف بسيد الاستغفار: فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ». قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»([18]).
والسؤال: لماذا هذا النصُّ خاصَّة هو سيد الاستغفار؟
والإجابة: لأنه أفضل الصيغ التي تطلب فيها المغفرة من منعم أنعم عليك، وأخطأت في حقِّه!
لقد بدأ بتوحيد وتمجيد
ثم وَعْد بالبقاء على الوفاء
ثم اعتراف بالخطأ
واعتراف بالنعمة
ثم طلب للمغفرة
وأخيرًا إبراز مبرِّر اللجوء إليه مع أن العبد أخطأ في حقِّه، وهو أنه لا يغفر الذنوب إلَّا هو، فلا مناص من الطلب منه دون غيره!
هنا نتوقَّع أن يغفر الله عز وجل لنا؛ لذلك عُرِفَ هذا الدعاء بسيد الاستغفار، وجعل الله ثواب قوله الجنة، دلالة على أنَّ طلب المغفرة قد قُبِل.
مما سبق يتبيّن أن الصلاة من هذا المنظور تختلف عن الصلاة التي يُصَلِّيها معظمنا! فكثير من المسلمين يُصَلِّي لا لشيء إلَّا لأن الله سبحانه وتعالى فَرَضَ عليه الصلاة؛ فيشعر أنها أداءُ واجبٍ، فيُؤَدِّيها ليستريح «منها»، ويتفرَّغ بعدها لأعماله، وهذا لا يُمكن أن يخشع في صلاته، وقد يخشع أحيانًا عندما تكون له حاجة شديدة عند الله عز وجل؛ ولكنه لا يخشع غالبًا إلَّا في السجود حين يطلب بضراعة من الله تعالى أن يُحَقِّق له أمله وطلبه، وهو لا يُدرك أن قوَّة الإجابة مقرونة بقوَّة التعظيم لله عز وجل في أثناء الصلاة، وهذا بدوره مقرون بمدى تقدير الله تعالى في القلب، وكل هذا ينعكس بالتبعية على الخشوع.
لقد كان البعض يتصوَّر أنني سأبدأ في حديثي عن الخشوع في الصلاة من لحظة تكبيرة الإحرام، ثم أتحدَّث عن أركان الصلاة وأعمالها.. إن هذا في الواقع مهمٌّ جدًّا، لكنه ليس البداية! إنما أول طريق الخشوع هو أن تُقَدِّر لله قدره، وبعدها يُمكن أن ندخل إلى الصلاة!
[1] مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو داود (875)، والنسائي (723)، وأحمد (9442).
([2] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، (2577) واللفظ له، والترمذي (2495)، وابن ماجه (4257)، وأحمد (21405)، والبخاري: الأدب المفرد، ص172 (490).
[3] هو: أبو إدريس الخولاني عائذ الله بن عبد الله بن عمرو العوذي الدمشقي (8-80هـ=630-700م) من كبار التابعين، فقيه، كان واعظ أهل دمشق، وقاصهم، وقاضيهم بعد فضالة بن عبيد لمعاوية وابنه إلى أيام عبد الملك بن مروان. الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/272-277، والصفدي: الوافي بالوفيات 16/340، وابن عبد البر: الاستيعاب، 2/800، 4/1594.
[4] انظر: مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، (2577)، وابن حبان (619)، والبخاري: الأدب المفرد، ص172 (490).
[5] يستعتب؛ أي: يسترضي الله بالإقلاع والاستغفار، والاستعتاب طلب الإعتاب؛ أي يطلب إزالة العتاب. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 13/222.
[6] البخاري: كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت، (5349)، واللفظ له، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، (2816).
[7] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ، وَلِوَاءُ الحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ». ابن ماجه (4308)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1571).
[8] البخاري: كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، (6202)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، (186).
[9] مسلم: كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، (187)، وأحمد (3899).
[10] أحمد (3712)، وابن حبان (972) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وأبو يعلى (5297)، والطبراني: المعجم الكبير، (10374)، وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني... ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. انظر: مجمع الزوائد 10/299، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (199).
[11] البخاري: كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ». (6035)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شرِّ ما عمل ومن شرِّ ما لم يعمل، (2719).
[12] قمن: حقيق وحريٌّ وجدير. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، 2/300، والنووي: المنهاج، 4/198.
[13] مسلم: كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، (479)، وأبو داود (876)، والنسائي (218)، وأحمد (1900).
[14] قال ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، في بداية روايته: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ... الحديث السابق، وهذا كان في الأيام الأخيرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس.
[15] لقوله صلى الله عليه وسلم بعد التشهد: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو». البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، (800)، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «ثم يَتَخَيَّر بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ». مسلم: كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، (402).
[16] القنوت هو اسم للدعاء في الصلاة في محلٍّ مخصوص من القيام، والوتر صلاة مخصوصة بعد فريضة العشاء، وسُمِّيَتْ بذلك لأن عدد ركعاتها وتر (أي فردية)، وهي آخر الصلاة بالليل. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 27/289- 299، 34/57، 68، والزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 1/809-828، وعبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة 1/305-308.
[17] الترمذي: أبواب الوتر، باب ماجاء في القنوت في الوتر (464) وقال: هذا حديث حسن. وأبو داود (1425)، والنسائي (1442)، وابن ماجه (1178)، وأحمد (1718)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. وقال ابن الملقن: هذا الحديث صحيح. انظر: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير 3/630، وقال النووي: رواه الثلاثة (أبو داود والترمذي والنسائي) بإسناد صحيح. انظر: خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام 1/455.
[18] البخاري: كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار، (5947)، والترمذي (3393)، والنسائي (7963)، وأحمد (17152).
التعليقات
إرسال تعليقك