الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
فن الأبلق أسلوب معماري فريد يشهد على إبداع المعماري المسلم، شهد تطوُّرًا كبيرًا زمن العصر المملوكي والعثماني، وأشهر نماذجه قصر الأبلق بدمشق.
فن الأبلق، أسلوب معماري فريد يشهد على إبداع المعماري المسلم، وإن كان فنُّ الأبلق ظهر قبل الإسلام، إلَّا أنَّه شهد نهضةً معماريَّةً كبيرةً في العمارة الإسلاميَّة، خاصَّةً زمن العصر المملوكي والعثماني، وأشهر نماذجه قصر الأبلق في دمشق.
تعريف مصطلح الأبلق
الأبلق مصطلح لغوي عربي فصيح من كلمة "بَلَق"؛ التي تعني السواد والبياض في اللون. ولكن فيما بعد تغير هذا النمط مع المحافظة على الاسم، ولم يعد يعتمد على اللونين الأبيض والأسود فحسب، بل صار "الأبلق" تسمية تُطلق على نسق في الصفوف الحجرية الأفقية، حيث تتناوب الألوان التي باتت تضم، بجانب اللونين الأبيض والأسود، الأحمر والأصفر والترابي أو البني وغير ذلك.
وجاء في موسوعة الآثار السورية: "الأبلق نوعٌ من الفنون الهندسيَّة التي ارتبطت بالعمارة الإسلامية في بلاد الشام ومصر خاصَّة؛ حيث يحرص المعمار على بناء مداميكه -وخاصَّةً في الواجهات- بشكلٍ تتبادل بها ألوان الأحجار المكوِّنة لها بين اللونين الأبيض والأسود أو اللونين الفاتح والداكن؛ فالمداميك خطوط داكنة وأخرى كاشفة، بالتبادل يتم عملها بوساطة صفوف من الأحجار الطبيعية أو الملونة، حتى يخفف المعمار بهذا التغيير اللوني من ثقل الوتيرة الواحدة في الكتلة المعمارية للواجهة.
ولا تبعد دلالة المصطلح عن تلك التي ذكرها اللغويُّون، قال ابن منظور: "البلق: سواد وبياض، ويُقال للدَّابة: أبلق وبلقاء". كما قيل: إنَّ أصل اللفظ يمني من كلمة "التبلُّق"، التي تعني في النقوش السبئية، وكذلك في لهجة اليمن اليوم- "الحجر الكلسي".
تطور عمارة الأبنية السورية
تشتهر المدن السوريَّة منذ القدم بالأبنية الحجرية المتقنة، ولكن كان لكلٍّ من المدن السورية طابعها الخاص وحجارتها المميزة، ويُلاحظ مثلًا انتشار الحجر الأبيض المنحوت في أبنية مدن مثل حلب وحماه؛ حيث تكثر فيها مقالع مثل هذه الأحجار، بينما تطغى الأبنية المشيَّدة بالحجارة البركانية البازلتية الزرقاء والسوداء في مدن حمص، التي يُطلق عليها لقب "أم الحجار السود"، ودرعا والسويداء في جنوب سوريا.
كذلك تخصَّص المعماريُّون السوريُّون وأبدعوا في تصميم وبناء الواجهات الفنِّيَّة، ولقد اشتهرت في العاصمة دمشق نماذج الواجهات المختلفة، ومنها الرخاميَّة والحجر المنحوت وغيرها، وما زالت الكثير من الأبنية القديمة التاريخية تُحافظ على واجهاتها التراثيَّة المبنيَّة بفنٍّ زخرفيٍّ يعود للعصر المملوكي، ويُطلق عليه "الأبلق"، الذي يقوم على استعمال حجارةٍ من ألوانٍ مختلفة، ومِنْ ثَمَّ انتشر هذا النمط المعماري في الأبنية اللاحقة حتى أوائل القرن العشرين المنصرم ونهاية العصر العثماني، عندما بدأ دخول أنماط العمارة الأوربِّيَّة إلى المدن السورية.
مع وجود عشرات المباني الكبيرة والصغيرة في دمشق وباقي المدن السورية، التي مازالت تُحافظ على فن "الأبلق" في جدرانها، حيث وجود حرفيِّين سوريِّين يعملون في مجال ترميم واجهات المباني المنفَّذة بهذا الطراز، ومنهم من توارث هذه المهنة أبًا عن جد.
الأبلق قبل الإسلام
ومن الثابت تاريخيًّا أنَّ هذا الأسلوب قد عُرِف قبل الإسلام فبُنيت به بعض العمائر في سوريا، ومنها قصر ابن وردان المبني عام 564م في بادية حماة، ويُعدُّ أقدم أمثلة هذا الأسلوب في العمارة السورية، وفي الجزيرة العربية حيث تذكر كتب التراث قصرًا للسموءل بن عادياء في تيماء باسم "الأبلق الفرد"، وذلك عندما بنى له والده حصنًا باللونين الأبيض والأسود شمال الجزيرة العربية..
قال ياقوت الحموي: "الأَبْلَقُ: حصن السَّموأل بن عادياء اليهودي، وهو المعروف بالأبلق الفرد، مشرف على تيماء بين الحجاز والشام على رابية من تراب، فيه آثار أبنية من لبنٍ لا تدلُّ على ما يُحكى عنها من العظمة والحصانة ...، وإنَّما قيل له الأبلق؛ لأنَّه كان في بنائه بياضٌ وحمرة، وكان أوَّل من بناه عادياء أبو السموأل اليهودي، ولذلك قال السموأل:
بنى لي عاديا حصنًا حصينًا *** وماء كلَّما شئت استقيت
رفيعًا تزلق العقبان عنه *** إذا ما نابني ضيم أبيت
وأوصى عاديا قدمًا: بأن لا *** تهدَّم يا سموأل ما بنيت
وفيت بأدرع الكنديِّ، إني *** إذا ما خان أقوام وفيت".
وذكر ياقوت أنَّ هناك دير بالأهواز ثم بكوار من ناحية أردشير خرَّه، يُسمَّى (دير الأبلق)، وفيه يقول حارثة بن بدر الغداني:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ *** أَقَــامَ بِدَيْرٍ أَبْلَقٍ مِــنْ كوَارَا
مُقِيمًا يَشْرَبُ الصَّهْبَاءَ صِرْفًا *** إِذَا مَا قَلَّتْ تَصْرَعُهُ اسْتَدَارَا
تاريخ فن الأبلق في العمارة الإسلامية
وقد عُرِفَ هذا الأسلوب الهندسي المعماري في العمارة الإسلامية منذ القرن (2هـ=8م)، فمِنَ المعروف أنَّ جامع قرطبة الكبير الذي بناه عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ=776م) كان قد تميَّز بظاهرةٍ معماريَّةٍ جديدةٍ آنذاك، تمثَّلت في بناء العقود بظلَّة القبلة من صنجة من الحجر الأبيض، تليها أربعة مداميك من الآجر، وهكذا بالتبادل.
ثم شاعت هذه الظاهرة المعمارية بعد ذلك وعُرِفت عند المؤرِّخين بنظام الأبلق، ثم ما لبث هذا الأسلوب البنائي أن انتشر في العمارة الإسلامية في سورية نظرًا إلى توافر كلٍّ من نوعي الحجرين المستخدمين فيه، وهما: الكلسي (الجيري) الأبيض، والبازلت الأسود.
ولعلَّ أشهر قصرٍ بُنِي بهذا الأسلوب المعماري هو القصر الأبلق في دمشق، الذي بني بأحجارٍ بيضاء وسوداء بالتبادل، وذلك القصر أعاد بناءه السلطان الظاهر بيبرس على ضفاف نهر بردي سنة (665هـ=1266م) أو بعدها بقليل، وكان مضربًا للمثل لقوَّة بنائه ومقاومته لأيِّ هجومٍ، حتى هدمه تيمورلنك سنة (803هـ=1400م)، ثم إنَّه أُعِيد بناؤه وترميمه، وظلَّ منزلًا للأمراء حتى العصر العثماني؛ حيث بُنِيَت مكانه التكيَّة السليمانيَّة.
وبعد بناء الظاهر بيبرس قصر "الأبلق" في دمشق، انطلق هذا الفنُّ المعماريُّ وانتشر نحو مدن سوريا أخرى، ولم يقتصر البناء بـ "الأبلق" على سوريا وحدها؛ إنَّما انتشر في مناطق أخرى، منها مصر، خاصَّةً القاهرة عاصمة دولة المماليك، وقد عُرِفَ في مصر باسم "الحجر المشهر".
وكذلك بُنِيَت بأسلوب الأبلق واجهات دار القرآن الأفريدونيَّة التي انتهى بناؤها عام (749هـ=1348م)، والواقعة بمنطقة باب الجابية في دمشق، وكذلك بني الحمام الناصري في حلب في القرن (8هـ=14م)، والبيمارستان الأراغوني (755هـ=1354م)، وجاءت عمارة الخانقاه الجقمقية (824هـ=1421م) في دمشق لتُمثِّل قمَّة نضوج هذا الأسلوب المعماري، ولا يُشابهها سوى المدرسة السيبائيَّة (921هـ=1512م) التي تُعدُّ آخر عمائر الدولة المملوكيَّة في سوريا (658-922هـ= 1260-1516م).
فن الأبلق في العصر العثماني
وقد اقتبس العثمانيون في سوريا (922-1338هـ= 1516-1919م) هذا الأسلوب الفني واستعملوه في أبنيتهم، كما يظهر ذلك واضحًا في واجهات المجموعة العمرانيَّة المهمَّة في منطقة باب الجابية في دمشق، التي تُعرف بالدرويشيَّة، المؤلَّفة من جامع ومكتب لتعليم الأطفال وسبيل، عام (982ه=1574م)، وكذلك في جامع السنانيَّة -الواقع في المنطقة نفسها- الذي انتهى بناؤه عام (999هـ=1590م)، وخان أسعد باشا العظم في منطقة البزورية في دمشق القديمة (1167هـ=1753م).
وقد زاد العثمانيُّون بهذا الأسلوب تطويرًا آخر حين ابتدعوا أسلوبًا جديدًا لم يلبث أن صار أحد طرز هذا الفن الهندسي المعماري، وتمَّ ذلك من خلال الخلط بين طراز الحجر الأبلق الذي تتناوب فيه المداميك البيضاء والسوداء، وبين طراز الحجر المشهر الذي يعتمد فيه على تناوب المداميك البيضاء والحمراء والمائلة إلى الصفرة، ويُعدُّ قصر العظم (1164هـ=1749م) خير مثال على هذا التطوير؛ حيث يتَّضح من جميع واجهاته الداخليَّة هذا التناوب الذي جاء تطويرًا واضحًا أضاف على هذه الواجهات أناقةً لافتةً للنظر؛ إذ خفَّف التبادل بين ألوان المداميك (أبيض، أسود، أصفر مائل إلى الحمرة) من ثقل الواجهات وحسَّن منظرها.
كما يُطلق اسم الأبلق في مصطلح أهل الشام على نوعٍ من الزخرفة المعماريَّة تتكوَّن من زخارف هندسيَّة جميلة تُوضَع فوق أبواب القاعات، وبالمساحات أسفل عقود الأواوين، وداخل القاعات عند أرجل العقود، أو فوق فتحات الشبابيك، وغيرها.
ويعتمد هذا الأسلوب على نحت أماكن الزخارف المراد إخراجها على الأحجار بشكلٍ غائر، ثُمَّ تُنزل تفاصيلها الزخرفيَّة الملونة باستخدام معجون ملوَّن يملأ الفراغات المنحوتة بحسب الموضوع المراد زخرفته؛ ليكون الناتج بالنهاية موضوعًا زخرفيًّا متكاملًا صار يُعرف في العصر العثماني بـ"الأبلق"، عِلْمًا أنَّه كان قد ورد بوثائق العصر المملوكي ما يُفيد معرفة هذه الطريقة بذلك العصر بما كان يُسمَّى "الزخارف المنزلة بالمعجون الملوَّن".
__________________
المصادر والمراجع:
- ياقوت الحموي: معجم البلدان، الناشر: دار صادر - بيروت، الطبعة: الثانية، 1995م.
- اليونيني: ذيل مرآة الزمان، بعناية: وزارة التحقيقات الحكمية والأمور الثقافية للحكومة الهندية، الناشر: دار الكتاب الإسلامي - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1413هـ=1992م.
- ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، الناشر: المجمع الثقافي- أبو ظبي، الطبعة: الأولى، 1423هـ.
- عاصم محمد رزق: معجم المصطلحات العمارة والفنون الإسلامية، الناشر: مكتبة مدبولي، ط1، القاهرة 2000م.
- غزوان ياغي: المعالم الأثرية للحضارة الإسلامية في سوريا، الناشر: المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، ط1، الرباط 2011م.
- غزوان ياغي: موسوعة الآثار السورية، (الأبلق)، آثار إسلامية، ص45.
- هشام عدرة: الأبلق .. فن معماري جميل انطلق من دمشق في العصر المملوكي، جريدة الشرق الأوسط الدولية، العدد (12037)، السبـت 15 ذو الحجـة 1432هـ= 12 نوفمبر 2011م.
التعليقات
إرسال تعليقك