التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
أخذت عملية انتخاب الخليفة بين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما صورة مختلفة عن عمليات الاستخلاف السابقة في تاريخ دولة الإسلام.
طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه آخر عام 23 من الهجرة. طعنه أبو لؤلؤة المجوسي. لم يمت عمر رضي الله عنه مباشرة إنما ظلَّ أيامًا ثلاثة قبل الوفاة، وفي هذه الفترة استخلف ستة من الصحابة القرشيين يُختار منهم الخليفة، وبعد الاختيار تم الاستقرار على استخلاف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتمت مبايعته من عامَّة المسلمين.
آلية جديدة لاختيار الخليفة:
أخذت عمليَّة استخلاف عثمان بن عفَّان رضي الله عنه صورةً جديدةً مختلفة عن عمليَّات الاستخلاف السَّابقة في تاريخ دولة الإسلام. كانت الصُّورة الأولى التي مارسها المسلمون هي الاختيار من عامَّة القرشيِّين، وهي التي حدثت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمَّ بها انتخاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أمَّا الصُّورة الثَّانية فكانت التَّعيين المباشر لاسمٍ واحد، ويُقرِّر المسلمون الموافقة على انتخابه أو رفضه، وهي التي رشَّح بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه عمرَ رضي الله عنه للولاية.
أمَّا الصُّورة الثَّالثة فهي التي نحن بصددها، وفيها رشَّح عمر رضي الله عنه سِتَّةً من الرِّجال القرشيِّين، وأعطاهم مدَّةً زمنيَّةً محدَّدة هي ثلاثة أيَّام، وفيها يختارون واحدًا من بينهم ليكون خليفةً من بعده، وإذا انقسموا إلى فريقين متساويين رجَّح بينهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
كان الستَّة المرشَّحون هم عثمان بن عفَّان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم. وكلُّهم يصلح للخلافة، سواءٌ من الناحية الشرعيَّة، أو من الناحية السياسيَّة، ويتميَّزون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان راضيًا عنهم تمام الرضا قبل موته تمامًا، وبعد الاختيار والاستقرار على اسمٍ واحدٍ ستتمُّ مبايعته من عامَّة المسلمين أو من رءوسهم، فإن تمَّت هذه البيعة صار خليفةً للمسلمين.
من المفيد أن نعرف أعمار المرشَّحين للخلافة وقبائلهم: فقد كانوا كبار جدًّا وأكبرهم سِنًّا عثمان رضي الله عنه إذ كان عمره سبعين سنة، ثم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان في السادسة والستين من عمره، ثم كان سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه في الثالثة والخمسين من العمر، والزبير بن العوَّام رضي الله عنه في الثانية والخمسين، فطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في التاسعة والأربعين، وأصغرهم سِنًّا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان في السادسة والأربعين من العمر، وكلهم من الرعيل الأول.
أما من ناحية النسب فكان عثمان رضي الله عنه أموي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهما، كلاهما من بني زهرة، والزبير بن العوَّام رضي الله عنه أسدي، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه تيمي، أمَّا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهاشمي.
بعد وفاة ودفن عمر رضي الله عنه، اجتمع السِّتَّة فورًا، ويبدو أن الاجتماع كان سريعًا، وخلصوا إلى تقليص العدد إلى ثلاثة لسهولة الاختيار، فتنازل ثلاثةٌ راغبين؛ وقد رشَّح كلُّ واحد من المتنازلين واحدًا من الثلاثة الآخرين؛ فتنازل الزبير رضي الله عنه لعلي رضي الله عنه، وتنازل طلحة رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه، وتنازل سعد رضي الله عنه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ومن الملاحظ أن الثلاثة الذين استقرَّ عليهم مجلس الشورى هم الثلاثة الذين توقَّع عمر رضي الله عنه أن تكون الخلافة فيهم، وهذا يدلُّ على تقدُّمهم على غيرهم، على الأقل في الأمور السياسيَّة والإداريَّة التي ينبغي أن يكون الخليفة متميِّزًا فيها.
فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه: «لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ؛ وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ». فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه، حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي،
ترد روايات كثيرة في وصف اهتمام عَبْدِ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه بسؤال الناس كافَّة، من الرجال والنساء، ومن أصحاب الرأي وعامَّة الناس، ومن أهل المدينة ومن زوَّارها، وانتهى عبد الرحمن رضي الله عنه إلى أن غالب الناس يختارون عثمان بنَ عفَّان رضي الله عنه، ولا يعدلون به أحدًا.
روى البخاري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ[1]، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا[2]». فَقَالَ[3]: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ. فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه، وَبَايَعَهُ النَّاسُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالمُسْلِمُونَ[4].
وهكذا تم اتِّفاق معظم المسلمين على أفضليَّة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه على كلِّ الصحابة الأحياء، وعلى أحقِّيَّته بالخلافة، ولا يضيره في ذلك أنَّ رأى بعض المسلمين غير ذلك، فالمهمُّ هو «الأغلب» وليس «الكلَّ»
وقد تمَّت عمليَّة الانتخاب بشكلٍ حضاريٍّ فريد، ولم تشهد أيَّة اضطراباتٍ على الرغم من صعوبة الموقف، وأجواء الحزن التي تبعت قَتْل عمر رضي الله عنه، وهذا يدلُّ على درجة نضجٍ عظيمةٍ في الدولة الإسلاميَّة آنذاك، وعلى وضوح الرؤية عند معظم الناس.
كانت هذه البيعة في صباح غرَّة شهر المحرم للعام الرابع والعشرين الهجري، ليستقبل المسلمون عامهم الجديد بولاية الخليفة الراشد الثَّالث من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم[5].
[1] قَدِمُوا إِلَى مَكَّة فَحَجُّوا مَعَ عُمَرَ، وَرَافَقُوهُ إِلَى الْمَدِينَة، وَهُمْ مُعَاوِيَةُ أَمِيرُ الشَّامِ، وَعُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ أَمِيرُ حِمْصَ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ مِصْرَ.
[2] أي لا تُعَرِّضْ نَفْسَكَ لِلْمَلامَةِ إِذَا لَمْ تُوَافِقْ عَلَى رَأْي الْجَمَاعَةِ.
[3] القائل هنا عبد الرحمن بن عوف، وهو يُبايع عثمان بن عفَّان.
[4] البخاري: كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، (6781).
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك