الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تحوي أميركا العديد من المساجد الأنيقة ذات الملامح المعمارية الفنية البارزة، أهما المسجد الأم، حيث أنه أول مسجد بني في أميركا كلها لا يزال قائمًا.
قد يستغرب البعض فتح صفحة من صفحات الحضارة الإسلامية في أميركا، ولكن هذا في الواقع حقيقي، ونافذة اليوم نفتحها على مسجد في مدينة سيدار رابيدز، وهي من مدن ولاية أيوا. على نهر سيدار المسمى على اسم النهر ذي التيارات السريعة الذي حول شواطئه أشجار سيدار الحمراء.
ليس الملمح الحضاري هو الناحية المعمارية للمبنى، وإن كانت أميركا تحوي العديد من المساجد الأنيقة ذات الملامح المعمارية الفنية البارزة، وتحوي العديد من الصروح الإسلامية الكبيرة ذات الأهداف المتعددة، لكن الملمح الحضاري في هذا المسجد هو أنه أول مسجد بني كمسجد لا يزال قائمًا كمسجد في أميركا كلها.
هذا هو المسجد الأم (The Mother Mosque of America) في مدينة سيدار رابيدز بولاية أيوا. وقد بُنِي في عام 1934 م، ويعتبر بذلك أقدم مساجد المسلمين بأميركا. يسبقه بعض المباني لكنها لا تحسب لأسباب:
1- مسجد Powers Street Mosque: وقد تحوَّل إلى مبنى لأغراض اجتماعية.
2- مسجد Highland Park Mosque: أسِّس 1921م في ديترويت، لكنه بيع في 1926م.
3- مسجد Ross, North Dakota: لم يعد المسجد موجودًا، ومع ذلك فقد بني في مكانه عام 2005 مسجد صغير كتكريم وذكرى له.
4- مسجد الصادق في شيكاغو أسِّس عام 1929، للقاديانيين الأحمدية، وهي طائفة تدَّعي الإسلام، وهم ليسوا كذلك، إنما يتبعون ميرزا غلام، وهو من مدَّعي النبوة.
المسجد الأم في سيدار رابيدز بناه بعض المهاجرين إلى أميركا، وكانوا على الأغلب من سوريا ولبنان، وقد دأبوا على استئجار مكان لصلاة الجمعة مع أنهم قليلون (عشرات).
اشترى المسلمون مكانًا، وبدأوا بأنفسهم عملية البناء في عام 1929، ومروا بصعوبات كبيرة لكون المبنى أُسِّس في وقت الأزمة المالية الكبرى التي كانت تمر بأميركا كلها: الكساد الكبير (Great depression 1929-1939)، وانتهوا في 15 فبراير عام 1934م.
ظلَّ هذا المسجد هو الوحيد للمسلمين في المدينة إلى عام 1971 حين بنى المسلمون المركز الإسلامي (the Islamic Center of Cedar Rapids)، وبعد ذلك تمَّ بيع المسجد الأم في الثمانينيات.
روعة وحضارة هذا المسجد في أمور:
الأول: كان له فضل السبق على غيره. المسلمون الذين قرَّروا بناءه أخذوا قرارًا لا يعلمون على وجه الحقيقة ردَّ فعل المجتمع والدولة عليه. هل هناك خطورة أمنية؟ هل هناك كراهية عنصرية؟ هل هناك تبعات مادية أو قانونية؟ لكن كان الحفاظ على الدين دافعًا لهم لتجاوز كل هذه الأسئلة وبناء المسجد.
الثاني: كان هذا المسجد قدوة لغيره. المسلمون الذين أخذوا هذا القرار في عام 1934 كانوا سببًا في تحميس المسلمين في شتى المدن الأميركية للقيام بالشيء نفسه. الآن يوجد بأميركا 2769 مسجد في إحصائية عام 2020. (في سيدار رابيدز 6 مساجد)
الثالث: قام المسلمون في سيدار رابيدز بعمل عظيم في عام 1991، وهو إعادة شراء المسجد القديم مرة أخرى، مع العلم أنه صغير لا يصلح لإقامة الصلوات، ولكن كبعد تاريخي، وعمق استراتيجي. هنا كانت النواة الأولى. كلما تعمَّقت جذورك كان من الصعب استئصالك. هذا عمل يحافظ على الهوية، وستأتي الأجيال المسلمة اللاحقة ليأخذوا العبرة والقوة من هذا البناء، وسيأتي الأمريكان ليعلموا أن المسلمين صاروا جزءًا من النسيج الطبيعي للدولة.
الرابع: فوجئت أن المسلمين في سيدار رابيدز هم كذلك أول من بنى مقابر خاصة بالمسلمين في أميركا، وهذا في عام 1948. (تركيز المسلمين هناك على تعميق الجذور في البلد). وهذا يخدم العمق الذي يبتغيه المسلمون في أميركا في هذه المرحلة.
مرَّ المسلمون بمراحل في أميركا:
· في البداية جاءوا مكرهين كعبيد من أفريقيا
· وبعدها في أواخر القرن 19 وأوائل 20 جاءوا كعمال بسطاء بغية عيش أفضل.
· في الخمسينيات والستينات بدأت وفود الطلبة الباحثين عن درجات علمية أفضل.
· ازدادت الجالية حجمًا، وظهر الجيل الثاني والثالث، ولم يعد هناك مكان لاستخدام لفظ الجالية، بل صار المسلمون أمريكيين كغيرهم من أهل أميركا، وبالتالي لهم كلُّ الحقوق المتاحة في البلد، وهذا يحتاج -قبل قناعات الحكومة والشعب الأميركي- قناعة لدى المسلمين أنفسهم بأنهم جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، وهذا الجزء لا يذوب، بل يحافظ على هويته ودينه، ويتعايش بشكل طبيعي سلمي راقي مع الأطياف الأخرى للشعب.
الآن، بسبب صغر هذا المسجد فإن غالب المسلمين في سيدار رابيدز يصلون في المساجد الأخرى بالمدينة، ومع ذلك بقي المسجد الأم كمكان تاريخي ينشر المعلومات عن الإسلام، وهو مسجَّل الآن في قائمة الأماكن التاريخية القومية (National Register of Historic Places) وموصوف بأنه قطعة أساسية من تاريخ أميركا الديني، وهو يعبِّر عن التعايش وقبول الإسلام والمسلمين في أميركا (essential piece of American religious history, which symbolizes tolerance and acceptance of Islam and Muslims in the United States).
أيها المسلمون في أميركا: زوروا هذا المسجد، وخذوا منه العبرة والدعم، وشدُّوا على أيدي المسلمين في المركز الإسلامي لسيدار رابيدز، واشكروا آباءهم وأجدادهم الذين أعطونا هذه اللقطة الحضارية الرائعة[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك