ملخص المقال
بعد أن تم بناء القاعدة الصلبة جاء الأمر الإلهي الثالث إلى رسول الله أن يتحرك علانية إلى الناس كافة![في العقيدة والحركة](http://books.islamstory.com/index.php/images/content/tumblr_ncd9geChfn1rm3fh1o1_1280.jpg)
منذ اللحظة التي تم فيها أول لقاء بين رسول الله r وبين الوحي الأمين، حين أُمر بأن (يقرأ).. حدث لقاء آخر يوازيه، وسيُقدّر له أن يلعب دوره الخطير على مدى تاريخ الإسلام والبشرية.. لقاء بين العقيدة والحركة.
إن الآيات الأولى من سورة (العلق) هي البداية التي تحمل دلالتها في هذا الاتجاه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]. إن القراءة هنا بالنسبة لرجل أميّ كمحمد u، لا تعني أبدًا متابعة كلمات مرسومة على صفحات الأشياء، وإنما متابعة المعاني والقيم المحفورة على صفحات الكون والعالم، حيث كل الأسهم والمؤشرات تقول بوجود الله وتؤكد وحدانيته، وحاكميته المتفردة، وهيمنته، وكلمته التي لا رادّ لها.
إنها -بمعنى من المعاني- طلب التحرك باتجاه هذه الدلائل، للوصول الأكثر عمقًا وإدراكًا إلى الله.. وإن تكوين الإنسان المسلم، بدءًا من رسول الله r نفسه، وانتهاء بآخر رجل سيُقدّر له أن ينتمي إلى هذا الدين، لا يتحقق إلاّ باجتياز هذه البوابة الكبيرة.. ولقد استغرقت عملية الاجتياز للتحقق بالقناعات العميقة الراسخة، ثلاثة عشر عامًا هي مدى العصر المكي كلّه، حين كان القرآن والرسول الكريم u يبنيان الإنسان المسلم تمهيدًا للدور الذي سيليه.
ومع هذا الأمر الإلهي للرسول u بالحركة صوب الكون والعالم، طلب منه بعد قليل أن يتحرك صوب الإنسان لكي يدعوه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]. وكانت الظروف التاريخية (المرحلية) تقتضي أن تتم هذه الحركة بأكبر قدر من السرّية والكتمان.. ولما أن تمّ بناء القاعدة الصلبة التي ستأخذ على عاتقها مهمة مدّ الدعوة إلى أوسع مساحة ممكنة، جاء الأمر الإلهي الثالث إلى الرسول r أن (يتحرك) علانية إلى الناس كافة، بدءًا بعشيرته الأقربين {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
فكان ذلك الاجتماع الحاشد الذي دعا إليه الرسول u، وأعلن فيه -لأول مرة- أبعاد دعوته.. في دعوات القرآن الثلاث لرسوله الأمين u عبر سنيّ الدعوة الأولى، يتبيّن هذا الارتباط الوثيق بين العقيدة والحركة.. وحتى الصيغ التعبيرية والمفردات اللغوية التي اعتمدت لتوصيل التعاليم القرآنية إلى الرسول u كانت مشحونة بهذا المعنى الخطير: (اقرأ..) (قم فأنذر..) (فاصدع بما تؤمر..)، فليست الحركة فحسب -إذن- ولكنها الحركة الواعية بالقراءة، المخططة باتخاذ الحيطة في السنين الأولى، العنيفة الحاسمة المستقيمة بدعوة الناس كافة إلى الحقيقة الكبرى التي قُدِّر لها أن تقلب الإنسان والعالم وهي (شهادة لا إله إلاّ الله..).
ثم كانت هجرة الرسول u وأصحابه y إلى المدينة، حركة باتجاه آخر.. اتجاه تكوين الدولة الإسلامية بالتشريع العقديّ، بعد أن تم اجتياز مرحلة بناء الإنسان المسلم بالتصوّر العقديّ وقناعاته المتوغلة في الأعماق.
وهكذا يستمر التدفق الحركي للعقيدة الإسلامية منذ لحظات الانبثاق الأولى.. ونحن نعرف جميعًا كيف كانت سنيّ العصر المدني العشر حركة دءوبة من أجل ترسيخ الكيان الجديد، والدفاع عن مقدراته، وضرب كل القوى التي تشكل خطرًا عليه.. حتى والرسول u يعاني من الحمى القاسية في مرضه الأخير الذي أدى به إلى الوفاة.. نجده u يمدّ بصره البعيد إلى ما وراء الحدود، ويعدّ العدة لجيش جديد يتوغل في عمق الأرض العربية في الشمال؛ لكي يضرب عددًا من المواقع المتعاونة مع العدو البيزنطي.
وجاء الراشدون y لكي يواصلوا الطريق، استنادًا إلى القاعدة التي سهر الرسول وأصحابه على تكوينها، وينتقلوا بالحركة الإسلامية إلى مرحلة جديدة، كان القرآن الكريم قد أكدها منذ العصر المكي، وكان الرسول u قد رسم -عمليًّا- مؤشراتها الأولى في عدد من الوقائع والأحداث، تلك هي المرحلة العالمية.
لقد حوّل الراشدون y استراتيجية (الجهاد) صوب الأهداف المركزية التي بدأ الرسول u التحرك نحوها في أعقاب صلح الحديبية، بالكلمة حينًا والسلاح حينًا آخر، والتي جاءت (الردّة) بمنزلة عائق وقتي عن مواصلة التحرك في سبيلها.. ذلك هو السعي من أجل تنفيذ عالمية الإسلام، وإسقاط كافة النظم الباغية، وإزاحة كافة الطواغيت من مراكز السلطة، وإلغاء كافة التشريعات الوضعية التي صمّمها ونفذها حفنة من المتألهّين في الأرض، وتحقيق البديل الوحيد لذلك كلّه: ألاّ تكون فتنة للناس، وأن يكون الدين والمنهج والتشريع لله.. أي أن يتحرّر الناس من كافة الضغوط والمؤثرات التي يمارسها الطواغيت في العالم، وأن يسود الأرض تشريع عادل واحد، لا تحيّز فيه أو ميل لطبقة أو جماعة أو فئة أو أمة.. ذلك هو شرع الله.
وعبر طريق الجهاد القاسي الطويل، ومنذ لحظات الفجر الأولى، كانت العقيدة بالنسبة للإنسان المسلم والجماعة المسلمة بمنزلة الدافع والهدف.. فهي تحرِّكهم من الداخل بعطائها الدائم، ومطالبها المستمرة، وهي تناديهم من الخارج؛ لكي يتحركوا إلى الأهداف الكبيرة التي جاء هذا الدين لكي يجعل العالم يتحقّق بها، فيكون عالمًا جديرًا بالإنسان الذي كرمه الله.
تُرى.. كم من الحركات التاريخية عبر قرون الإسلام الأولى، لم تتمخض عن العقيدة الإسلامية وتنبثق عنها؟ نعم.. لقد ابتعد بعضها -بهذا القدر أو ذاك- عن روح العقيدة ومسلّماتها ورؤيتها، لكنه ظل في تياره الأشمل والأرحب مرتبطًا بها، مستمدًّا قدرته على الفعل والامتداد والديمومة من دفعها وقدرتها على الفعل والإنجاز.. وحتى تلك الحركات القليلة التي شذّت -بالكلية- عن أي قدر من التوافق والانسجام والتناغم، إن هي -في نهاية التحليل- إلاّ ردّ فعل لهذا الاتجاه أو ذاك.. لموقف عقديّ أملي عليها -لسبب ما- اتخاذ موقفها هي الأخرى.. وما أكثر الأسباب..!!
إن مساحات واسعة من تاريخنا -إذن- لا يمكن بحالٍ رؤيتها وتحليلها إلاّ على ضوء هذه العلاقة المتبادلة بين العقيدة والحركة.. وإذا كان عصر الرسالة يمثل -ولا ريب- انطباقًا باهرًا بين القطبين، فلأنه عصر النبوة، حين قاد الرسول u أخطر حركة في التاريخ من أجل التحقق بالعقيدة الجديدة، وعلى كل المستويات، ابتداءً من أصغر التجارب والممارسات اليومية، وانتهاء بتغيير خرائط العلاقات والقيم والأشياء على مدى العالم كلّه.
د. عماد الدين خليل
المصدر: موقع الإسلام اليوم.
التعليقات
إرسال تعليقك